أ.د.حمزة بن قبلان المزيني
نشر الفيلسوف الألماني المشهور يورغن هابرماس وثلاثة آخرون بيانًا عن الأحداث الأخيرة في غزة. كما أصدر عدد من أساتذة الجامعات الأوروبيين والأمريكيين بيانًا للرد على بيان هابرماس وشركائه. وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية البيان الأخير مصحوبًا برابط لبيان هابرماس وشركائه.
ومن أهم الجمل تلك الجملة المحورية التي يَعترض فيها بيان هابرماس وشركائه على وصف التدمير والقتل والتهجير والحرمان من مقومات الحياة التي ارتكبتها «إسرائيل» بـ»الإبادة الجماعية» والزعم بأن هذا الوصف «لا ينطبق» على جرائم إسرائيل تلك، ويجب «عدم استعماله».
والملاحظة الأولى على هذه الجملة وصف البيان الفلسطينيين من مواطني غزة بـ»السكان». ويعني هذا الحكمَ أن هؤلاء «الفلسطينيين» ليسوا «شعبًا»، بل مجموعات من الأفراد الذين صَدَف أنهم يعيشون في هذه البقعة من الأرض. وربما يَتبع من عدم «اعتراف» البيان بالكيان السياسي للفلسطينيين أنهم لا يتمتعون بالحقوق السياسية الكاملة التي تتمتع بها «الشعوب» الأخرى.
كما يتبين من هذه الجملة حكم البيان على ما أن ما يصل إلى حد الاستئصال الذي تنفِّذه إسرائيل ليس من قبيل «الإبادة الجماعية». وهو الحكم الذي بيَّن البيانُ الثاني الذي ردَّ فيه عدد من أساتذة الجامعات أنه موضع جدل، وأنه حتى إن لم «ينطبق» وصف «الإبادة الجماعية» على ما تقوم به إسرائيل، كان الأحرى بهابرماس أن «يحذِّر» من احتمال أن تَؤول «تصرفات» إسرائيل إلى «إبادة جماعية».
ولا خلاف على أن لهابرماس وشركائه الحق في أن يقوم موقفهم على عقدة الشعور بالذنب المتأصِّل عما يقال عن «المحرقة» التي نفَّذها الألمان ضد اليهود في ألمانيا النازية. ولا خلاف على موقفهم في الدعوة إلى الوقوف في وجه ما يسمى «معاداة السامية» ضد اليهود في ألمانيا؛ وهو، بالمناسبة، وصف مقصور على «اليهود» من بين من يدَّعى بأنهم «ساميون».
أما المشكل فهو أن هابرماس وشركاءه يوسِّعون موقفهم ليشمل شعورهم بـ «عقدة الذنب» دولة إسرائيل. ويعني هذا أن هابرماس وشركاءه سيدافعون عن إسرائيل بغض النظر عما ترتكبه من جرائم لأن نقدها يثير فيهم الشعور بالذنب. بل يتعدى هابرماس وشركاؤه إلزامَ أنفسهم بالدفاع عن إسرائيل إلى الإيحاء بأن هذا الموقف «أخلاقيٌّ» و»كُلِّيٌّ» ويجب أن يلتزم به الجميع - الألمان وغير الألمان.
وربما لا تبعد هذه النزعة التي تقول في حقيقتها إن «إسرائيل فوق الجميع» عن الشعار النازي العنصري في ألمانيا النازية الذي كان يقول: «ألمانيا فوق الجميع».
وخلاصة الأمر أن موقف هابرماس وشركائه يعاني من العوار الأخلاقي إضافة إلى العوار «المنطقي» الذي يوسع القضايا إلى أحياز خارج حيِّزها المنطقي.
وفيما يلي ترجمتي للبيانين. مع الشكر لصحيفة الغارديان البريطانية.
بيان الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وشركائه
مبادئ التضامن. بيان
أدى الوضعُ الحالي الذي نشأ عن الفظائع المتطرفة التي ارتكبتها حماس وردِّ فعل إسرائيل عليها إلى سلسلة من البيانات والاحتجاجات الأخلاقية والسياسية [في ألمانيا]. ونحن نعتقد أن هناك بعض المبادئ التي لا ينبغي الخلاف عليها، من بين الآراء المتضاربة كلها التي عُبِّر عنها. وتمثل [هذه المبادئ] أساسَ التضامن مع إسرائيل واليهود في ألمانيا المشروعِ تسويغه إلى أبعد حد.
فقد دفعت المذبحةُ التي ارتكبتها حماس مع نيَّتها المعلنة للقضاء على الحياة اليهودية بشكل عام إسرائيلَ إلى الرد. أما مسألة الكيفية التي يُنفذ بها هذا الثأر، المسوَّغُ من حيث المبدأ، فموضوعُ نقاشٍ مثير للجدل؛ إذ يجب أن تَكون مبادئُ التناسب [في أعداد القتلى والدمار، مثلاً]، والحيلولةُ دون وقوع ضحايا من المدنيين، وشنُّ الحرب مع التطلع لإحلال السلام مستقبلاً، المبادئَ الموجِّهة [لهذا الثأر]. «ونحن نَجِد، بالرغم من قلقنا الواسع على مصير السكان الفلسطينيين، أن معايير الحكم المعهودة [التي يجب أن يتقيد بها المتحاربون] كلَّها لا تنطبق على وصف تصرفات إسرائيل بأنها نابعة من القصد لارتكاب «إبادة جماعية».
ولا تسوِّغ تصرفاتُ إسرائيل، بأي حال، ردودَ الفعل المعادية للسامية، لا سيما في ألمانيا. إذ من غير المقبول أن يتعرض اليهود في ألمانيا مرة أخرى لتهديدات تمسُّ حياتهم وسلامتهم الشخصية، وهو ما أدى بهم إلى الخوف من التعرض للعنف الجسدي في الشوارع. وترتبط الروحُ الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، المفطورةُ على الالتزام باحترام الكرامة الإنسانية، بثقافة سياسية تعدُّ الحياةَ اليهودية وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة في ضوء الجرائم الجماعية التي ارتُكبت [ضد اليهود] خلال العهد النازي. ويمثِّل الالتزامُ بذلك أمرًا أساسيًّا لحياتنا السياسية [ف ي ألمانيا]. والحقوقُ الأساسية في الحرية والسلامة الجسدية والحماية من التشهير العنصري أيضًا حقوقٌ غير قابلة للتجزئة وتنطبق على الجميع بالتساوي. ومن هنا، يجب على أولئك الذين يَستبطنون المشاعرَ والقناعات المعادية للسامية في بلادنا استنادًا إلى أنواع الذرائع كلها، ويجدون الآن الفرصة سانحة ليعبِّروا عنها صراحةً، أن يلتزموا بـ[تلك الحقوق الأساسية].
الموقعون:
نيكول ديتلهوف، راينر فورست، كلاوس غونتر ويورغن هابرماس
2- بيان للرد على بيان هابرماس وزملائه:
آدم توز، صامويل موين، آميا سرينيفاسان وآخرون يردون على بيان صادر عن أكاديميين ألمان حول الوضع في إسرائيل وغزة.
الجارديان، الأربعاء 22 نوفمبر 2023:
«تقرير: الحرب بين إسرائيل وحماس تفتح جدلاً ألمانيًّا عن معنى [مبدأ] «لن يحدث مرة أخرى»
البيان الردُّ:
نشعر نحن الموقعين على هذا البيان بقلق بالغ إزاء بيان «مبادئ التضامن» المنشور على الموقع الإلكتروني لمركز بحوث المبادئ المعيارية بجامعة جوته في فرانكفورت في 13 نوفمبر 2023، الذي وقَّعه نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، وكلاوس غونتر، ويورغن هابرماس.
إننا نعبِّر عن تضامننا مع كاتبِي البيان في إدانة قتلِ حماسَ مدنيين إسرائيليين واحتجازِهم في 7 أكتوبر 2023، ونتفق معهم تمامًا على الحاجة الماسة لحماية الحياة اليهودية في ألمانيا في مواجهة عداء السامية المتزايد. كما نتفق مع الأسس التي يقوم عليها البيان فيما يخص احترام الكرامة الإنسانية للناس جميعًا بصفتها جزءًا أساسيًّا من «الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية».
لكننا نشعر، مع ذلك، بقلق بالغ إزاء الحدود الواضحة للتضامن التي عبر عنها موقعو البيان. ذلك أن اهتمام البيان بالكرامة الإنسانية لا يشمل بشكل كافٍ المدنيين الفلسطينيين في غزة الذين يواجهون الموت والدمار. ولا يُطبَّق أو يُوسَّع ليشمل المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من تزايد الكراهية للإسلام. ويعني التضامن أن مبدأ الكرامة الإنسانية يجب أن يطبَّق على الناس جميعًا. ويتطلب هذا أن نعترف بمعاناة المتضررين من النزاع المسلح جميعهم ونعالجها.
ويدعي البيان أن «معايير الحكم المعهودة [التي يجب أن يتقيد بها المتحاربون] كلَّها لا تنطبق على وصف تصرفات إسرائيل بأنها نابعة من القصد لارتكاب «إبادة جماعية».
وهناك نقاش جارٍ الآن بين الباحثين في مجال الإبادة الجماعية والخبراء القانونيين عن إن كان المعيار القانوني للإبادة الجماعية ينطبق [على تصرفات إسرائيل ضد غزة]. وقد رفعتْ بعضُ جماعات حقوق الإنسان دعاوى قضائية تزعم حدوث إبادة جماعية [في غزة] أمام المحكمة الجنائية الدولية وإحدى المحاكم الاتحادية في الولايات المتحدة. ويذكِّرنا عمر بارتوف، أستاذ دراسات المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة براون [الأمريكية]، بأن: «التاريخ يعلِّمنا أن من الأهمية بمكان التحذيرَ من احتمال وقوع إبادة جماعية قبل وقوعها، بدلًا من إدانتها في وقت تالٍ بعد أنْ تَقع. وأظن أنه لا يزال لدينا هذا الوقت [للتحذير من وقوع الإبادة الجماعية]» ويعني إبداء التضامن واحترام كرامة الإنسان أنه يجب علينا أن نصغي إلى هذا التحذير وألا نغلِق مجال النقاش والتفكير عن إمكانية حدوث إبادة جماعية [للفلسطينيين في غزة]. ولا يعتقد الموقعون [على هذا البيان] كلُّهم أنَّ المعايير القانونية للإبادة الجماعية تنطبق [هنا]؛ ومع ذلك، يتفقون جميعًا على أن هذه مسألة نقاش مشروع.
ويَذكر بيان [هابرماس وشركائه] ثلاثةَ «مبادئ موجِّهة» للعمل العسكري، وهي: «مبادئُ التناسب، والحيلولةُ دون وقوع ضحايا من المدنيين، وشنُّ الحرب مع التطلُّع للسلام مستقبلًا». لكننا نَشعر بالقلق من عدم [تضمُّن بيانهم] أيَّ ذِكر لدعم القانون الدولي، الذي يَحظُر أيضًا جرائمَ الحرب والجرائم ضد الإنسانية كالعقاب الجماعي والاضطهاد وتدمير البنية التحتية المدنية بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة. ويَفرض الاسترشادُ بمبادئ المعايير القانونية الدولية والتضامن والكرامة الإنسانية علينا إلزام جميع المشاركين في النزاع بهذا المعيار الأعلى.
ولا يمكن أن نسمح للفظائع أن تجبرنا على التخلي عن هذه المبادئ.
الموقعون:
آدم توز أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا
صامويل موين أستاذ القانون والتاريخ بجامعة ييل
آميا سرينيفاسان أستاذة النظرية الاجتماعية والسياسية بجامعة أكسفورد
نانسي فريزر أستاذة العلوم السياسية والاجتماعية بالمدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية
أليس كراري أستاذ الفلسفة بالمدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية
ليندا زيريلي تشارلز إي ميريام أستاذة متميزة في العلوم السياسية بجامعة شيكاغو
شاندرا تالباد موهانتي أستاذ متميز، جامعة سيراكيوز
ديدريش ديدريشسن أستاذ نظرية الفن المعاصر، أكاديمية الفنون الجميلة، فيينا
بيت روسلر أستاذ الفلسفة بجامع ة أمستردام
كوين سلوبوديان أستاذ التاريخ في كلية ويليسلي
سيسيل مالاسبينا مديرة البرامج، الكلية الدولية للفلسفة، فرنسا