أحمد بن عبدالله الحسين
المعلقات لجيل الألفية الثالثة، إصدار يُقدِّمه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء»، بالتعاون مع مجلة القافلة في أرامكو السعودية. كتاب أنيق الصنعة باللغة العربية والإنكليزية، تسري به لغة عرض جاذبة لا عُسر يُمل ولا تبسيط يُخل، تناوشته أقلام عدة وكأنه في جسد واحد. إخراج يتناسب مع شَمَم المضمون وتحاذي العربية مع الإنكليزية فيه ليس مسبوقا. حصدوا عصارة المستعربين الذين ولعوا وهم لهم سابقة إبرازها لغير العرب، ولكثير ممن استغرب من العرب حيث كان ذاك القرن الثامن عشر. مجهود كتاب المعلقات يُقرب القارئ لتجذر الفصاحة قبل القرآن، وهو كذلك يربط بخيط خلودها. وعند الشغوف للعربية وآدابها يعيش تلك الأطياف لسرمديتها، وكأنه به يتذكر جلجامش ملك الوركاء باحثا عن سر الخلود في ملحمته وفيها شغل باله.
كتاب يجعلك تتنزه في مضامين تُراثنا العربي، التي تُعد المعلقات فيه من روائع الأدب العالمي كُتبت قبل أكثر من 1500 عام، وفيها جذور إبداع يستثير المخيلة، وغرز نبت استوى بالفصاحة وأثمر. مؤَلَف جاذب للباحث والأديب في النغم الدلالي البليغ، وكذلك حافل بسياقات وصف وتشبيب وتفخيم وافتخار حيث تذهب بالقارئ المُتلذد زخوم رادحة في إعجاز اللغة العربية. ومن درسها وتمعن في دهاليزها تسري به لغه عرض بانورامية. قيل إن شعراء المعلقات عشرة وبعضهم اختزلهم سبعة.
وكثير من فحول الشعراء كانت نجد موطن أغلبهم ومسرح أحداثهم؛ امرؤ القيس عاش في القصيم، وطرفة بن العبد البكري في يبرين، وحكيم الشعراء زهير بن أبي سلمى من عقلة الصقور بالقصيم، ولبيد بن ربيعة العامري من عالية نجد الجنوبية، والحارث بن عباد فارس حرب البسوس من الضبيعة في الخرج، وعنترة بن شداد العبسي من عيون الجواء بالقصيم، وعمر بن كلثوم عاش في حفر العتش، والحارث بن حلزة اليشكري من ملهم، وصناجة العرب أعشى قيس من منفوحة، والنابغة الذبياني من عقلة الصقور، والشاعر الجاهلي علقمة الفحل من ثرمداء، وعبيد بن الأبرص الأسدي من القصيم، والمتلمس الضبعي من القرينة بالقرب من حريملاء، واثيثية منازل جرير ودفنت زوجته بجلاجل، والفرزدق اليمامة وقيل كاظمة، وابن الدمينة عبدالله الأكلبي من تثليث، وقال أشهر قصيدة بنجد منها قوله:
ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
رعى الله من نجد أناس أحبهم
فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودي
والحطيئة من الزلفي ثم بنبان بجوار الزبرقان بن بدر ثم الوسيع بجانب بنو أنف الناقة، والشاعر الراعي النميري من ضرماء، وذو الرمة عاش بالدهناء، ومالك بن الريب بين القصيم واليمامة، ويحيى بن طالب من البره وما زالت آثار قصره بها، وذكر في قصائده قرقرى (وادي البطين).
نماذج مختارة لشعراء المعلقات مع شرح مختصر للأبيات الشعرية.
وهو لقب واسمه الحقيقي حندج وتعني الرملة الخصبة التي يكون فيها النبات الطيب. أما امرؤ القيس فمعناه رجل الشدة، وله ألقاب أخرى عدة، منها ذو القروح والملك الضليل. امرؤ القيس سليل أسرة ملوك كِنْده في نجد وأمه على المروي أخت كُليب ومهلهل سادة تغلب لُقب بالملك الضلِّيل لعدم قدرته استعادة ملكه المُضاع. قبره قرب مدينة أنقرة، وهو أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى في شعره، وهو من خسف للشعراء عين الشعر. امرؤ القيس في لوعة فراق المحبوبة، ووقوفه على أحزان طَّلليّة يبث ذكرياته الغزلية قائلا:
ففاضتْ دُموعُ العينِ مني صبابةً
على النَّحرِ حتى بلَّ دمعْيَ مِحْملي
مشهد تعبيري لغزارة دمع فاض ورقة شوق حتى تساقط الدمع أعلى الصدر النحر، وبلَلَ دمعه السير الذي يحمل السيف المحمل.
وأسطورته تخلد فيها اسمة، وُلِد في الربع الأول من القرن السادس ميلادي في الجزيرة العربية قبل الإسلام في عيون الجواء التابعة لإقليم القصيم حالياً. أمه حبشية اسمها زبيبة، أُسرت أثناء هجوم على قافلة كانت هي معهم، وأُعجب بها شدّاد العبسي، فأنجب منها عنترة الذي ورث سواد أمه فنبذه قومه وعيروه ورفضوا نسبه. وأبوه من بني عبس بطن من قبيلة غطفان النزارية العدنانية ومواطنها نجد والحجاز.
عنترة بَزَّ أقرانه من الفرسان في حروب الكرّ والفر لداحس والغرباء، والتي دامت أربعة عقود بين عبس وذبيان. ومسمى داحس وغبراء، هي أسماء فَرَسان أحدهما لبني عبس، والآخر لبني عمومتهم بني ذبيان. اشتهر عنترة بمعلقته الميمية التي رُويت ثمانين بيتا، وفيها غرس معاني الطَّلَلِيَّة والغزل والبكاء والفخر والحرب، والحبّ والحنين والوفاء بالعهد والبطولة. قصة حبّ عنترة لابنة عمه عبلة بن مالك، سطرتها قصائد غزل عفيف ووصال، وتزوجها بعد جهد وانتظار لتمنَّع أبيها وهو عمه. تُوفي عنترة حينما بلغ التسعين مقتولاً كما تذكر المرويات التاريخية. نأخذ من معلقة عنترة الميمية، وهو مَن عُرف بشجاعته وبأسه بيتين تذكران رقتةً وارتماءه تجاه الحبّ، وفي البيتين وصف لمحبوبته عبلة حينما أرسل جارية له تتجسس عليها، فترجع الجارية قائلة:
قالت؛ رأيت من الأعادي غِرّةً
والشاه ممكنةٌ لمن هو مرتمي
وكأنما التفتْ بجيدِ جَدايةٍ
رشأٍ من الغِزلانِ حُرٍّ أرثَمِ
الجارية تقول رأيت محبوبتك بعدما تجسست عليها عند قومها وهم أعادي، فهي غزالة (شاه)، ولك يا عنترة فرصة (غِرَّة) ممكنة لصيدها إذا أردت الصيد (مُرتمي)، وزادت وصف المحبوبة أنها إذا التفتت بعنقها (جِيد) لا أخالها إلا ضبية صغيرة (جَداية)، ورأيت شَفَتها العليا فيها بياض أو سواد (رشاء وأرثَم). لوحة فيها تجسيد حوار مجازي مفعم بخيال توصيف، وغزل لفارس يعرف الصيد ويخوض المعارك، وقلبه معلق بجمال محبوبته الغزالة يتحين فرصة صعبة المنال.
قصائد عنترة وعصاميته شكلت موروثا عبر الأجيال، وشعره امتد ناقلا حياة فارس عاشق لا تفارقه الحكمة كمثل هذا البيت:
لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ
أحد شعراء المعلقات، وهو من قبيلة بكر بن وائل. قيل مولده في ملهم بنجد أو بادية العراق، تُوفي عام 580م، عُرف أنه حكيم في الشدائد، امتاز بتطويع اللغة للإقناع، تميزت به معلقته التي أنشدها في مجلس الملك عمرو بن هند ملك الحيرة بالعراق، لضمان استتباب الصلح بين بكر وتغلب الذي كان معهم عمرو بن كلثوم وهو من أصحاب المعلقات. وهذان بيتان من معلقته:
أوقدتُها بين العقيق فشخصين
بعُود كما يلوحُ الصِّلاءُ
فتنوّرتُ نارها من بعيد
بخزار هيهات منك الصِّلاءُ
الشرح:
البيتان ينسل منهما وصف بلاغي، له مجاز تشبيه بين لواعج حبه لأسماء المرتحلة التي أفضت به إلى نار هند صاحبته، ونار يعيشها أخرى بين بكر وتغلب مستعينا بعمر بن هند ملك الحيرة لإطفائها.
والتالي مفردات البيتين التي قال الحارث إنه أبصر نار هند صاحبته حينما أوقدت نارها عن بعد بربوه (عقيق) وعلى النار طيب (عود) ليبلغ ريحها موضعين (شخصين)، وهو يشتاق لما يلوح بضيائها وصلائها. تلك النار بشعلتها نورت خزاز جبل بعيد في الدهناء وهو موضع شهد قتالا بين بكر وتغلب.
أحد شعراء المعلقات، وهو من قبيلة أسد المضرية العدنانية وسكناها نجد. قصيدته قدمها إلى حُجْر بن الحارث ملك كِندة وهو والد امرء القيس أحد شعراء المعلقات، وكان يستعطفه ويطلب منه رجوع قومه بني أسد إلى ديارهم، حينما نفاهم الحارث إلى تهامة لامتناعهم دفع الضرائب. وهذه بعض أبيات من قصيدته:
تَصْبو وأنَّى لكَ التَّصابي
أنَّي وقَد راعَكَ المَشيبُ
فإنْ يَكُنْ حالَ أجمعها
فلا بَدِيٌّ ولا عَجيبُ
أوْ يكُ أقْفَرَ مِنها جَوُّها
وعادَها المَحْلُ والجُدوبُ
الاستهلال في الأبيات هو سؤال في نفس الشاعر وكأنه يخاطب، كيف يكون التصابي والعشق، وقد أدركنا المشيب، ونحن نريد حقن الدماء والعودة إلى الديار، والموت في هجّر الأحبّة، ونشر الجدب. وأن الموت سنة جارية في الحياة ولا يجامل أحدا، وعظة الموت أن كل ذي نعمة سيفقدها، وكل صاحب أمل الأجل يترصده، وكل ثري ورثته تأخذ ماله من بعده، وكل مغتصب لمال غيره سيأتيه من يسلبها منه، وكل غائب سيعود إلا غائب الموت لا عودة له.
شاعر معلقات مُقلّ، له أنفة أُمّه ليلي بنت مُهلهل بن ربيعة شقيق كليب. هو سيد قومه، قتل عمرو بن هند ملك الحيرة حين أهان أمّه. قبيلة تغلب سكنت تُهامه وانتقلت بعد ذلك إلى شمال الجزيرة العربية، واستمرت في هجرات متوالية حتى استقرت بالعراق وبلاد الشام فيما عُرف بديار ربيعة وقاعدتها الموصل. قيل عن عمرو بن كلثوم لو وضعت أشعار العرب في كفّة، وقصيدة عمرو في كفّة لمالت بأكثرها. معلقته 94 بيتا وهذه منها:
تذكّرتُ الصّبا واشتقتُ لمّا
رأيت حُمُولها أصلاً حُدِينا
وأعرضت اليمامةُ واشمخرّت
كأسيافٍ بأيدي مُصلتينا
اشتاق عمرو إلى صباه وذكر رحيل صاحبته راكبة هودجها والحادي يحدو بالإبل وهي مفارقة ساعة الرحيل واليمامة تترأى له، وكأن سيوفا مسلولة في أيدي محاربين أشداء لتُربك قوة عمرو بن كلثوم
بهذا المشهد. تلك فتنة الفراق فيغتم بحزن وكأن حاله يشبه حزن ناقة ضاع صغيرها في الفلاة تندب حنينها على الفقد، أو حال عجوز بعمرها العتي تتملكها حسرة، أنجبت تسعة لم يعش لها منهم أحد، وفيهم جنين في قبره.
أبيات استعرض فيها وجعه وهو أسير عند محبوبته، يُخبرها ولا تُخبره، ويسألها ولا تجيبه.
أحد شعراء المعلقات، مخضرم من عالية نجد، دخل الإسلام، أبوه يُكنى ربيع المقتربن لكرمه. أما أعمامه فهم: عامر ملاعب الأسنة (الرماح والسيوف) لفروسيته وشجاعته، وعمه طفيل الملقب فارس قرزل، أي صاحب الفرس الصلب سريع اللحوق، وعمه الآخر معاوية ولقبه معوذ الحكماء يصلح بين الخصوم لحكمته، وآخرهم سلمى نزال المضيق لأقدامه. هذا ما أحاط ربيع في نشأته وعاش شطرا من حياته بالكوفة وتوفي عام 41هـ بديار قومه في بطن عاقل وادي النسا بالقصيم.
عيناك قد دلتا عينيَّ منك على
أشياء لولاهما ما كنت رائيها
قال ياقوت الحموي لم يذكر الشعراء موضعا أكثر مما ذكروا نجدا، ولم يتشوقوا لأرض كما تشوقوا لأرض نجد.