سهام القحطاني
الفلسفة علم يملك ولا يحكم.
الحديث عن الفلسفة دوماً له سحرٌ خاصٌّ يجذبك نحو متاهات أشبه بلعبة فكرية كلما تعقدت زاد إعجابك وتعلقك بها؛ ولعل لهذا الإعجاب أو الولع ما يبرره عند عشاق الفلسفة فهي تمنحك التحرر من قيود المنطق، وقد يدهش البعض من العبارة السابقة، باعتبار الفلسفة علم المنطق، فكيف تحررنا من المنطق؟
والمقصود بالمنطق القوالب المسكوكة من المفاهيم التي اتفق عليها العموم، فكل منطق ارتبط باتفاق العموم أصبح واقعاً فكرياً، لكن المنطق في أصله هو جوهر خالص لا يشترط الاتفاق أو الاعتراف، أشبه بالسقوط الحر الذي لا يتأثر إلا بفكر صاحبه؛ أي «الفكر لمجرد الفكر»، أو كما قال البعض «لذة الفكر في ذاته»، وهذا السقوط الحر قد يوقع الفلسفة في دهاليز السفسطة أو الفوضى الفكرية حيناً، وحيناً يمنح صاحبه «القدرة على صناعة الحكمة» لذا اعتبر الفيلسوف الكندي أن الفلسفة «صناعة الصناعات وحكمة الحكم»، وهذا المسار المضطرب للمنطق الفلسفي ما بين القول بالحكمة حيناً والقول بالسفسطة حيناً آخر، هو الذي جعل المنطق في الفلسفة غير موثوق في هيئته العلمية، ولذا يختلف المنطق في الفلسفة عن المنطق في العلم وحيناً يخالفه.
وهذه المخالفة قد تكون هي التي دفعت العالم «ستيفن هوكينج» عام 211 إلى القول بأن «الفلسفة ميتة» وبأن الفلاسفة فشلوا في «مواكبة تطورات العلم الحديث» وأن العلماء هم الأقدر على حل القضايا الفلسفية، باعتبار العلماء الأقدر على امتلاك قوانين التفسير والعللية في مستواها العيني وحاصلها التأثيري في تطور التجربة الإنسانية.
ظل محتوى المنطق أو دلالاته مصدر نزاع بين الفلسفة والعلم، «فإنويل كنت» في كتاب العقل المحض، يرى أن المنطق «منطق الاستعمال العام للفهم، الذي يحتوي على القواعد الضرورية للتفكير والتي بدونها لا يكون أي استعمال للفهم ممكناً، أي أن تفكر لتفهم لا لتقيس وبالتالي هي التي تعطي للفهم قواعد بصرف النظر عن تنوع الموضوعات التي قد يوجّه نحوها، أو كمنطق استعماله الخاص، ويقصد به قواعد التفكير الصحيح بنوع معين من الموضوعات»، وهذا الجانب من المنطق هو مرحلة تالية للفهم أي مرحلة القياس.
و«كنت» وفق هذه الرؤية يتوصل إلى أن المنطق ينقسم إلى قسمين، «المنطق بصفته منطقاً عاماً، ينحي جانباً كل محتوى لمعرفة الفهم ولتنوع موضوعاتها، ولا علاقة له إلا بصورة التفكير وحدها.
والمنطق بصفته منطقاً محضاً، لا يملك مبادئ تجريبية، وبالتالي لا يستمد شيئاً من علم النفس، الذي ليس له أي تأثير البتة على قانون الفهم، نظرية مبرهنة عليها، ويجب أن يكون كل شيء فيه يقينياً كل اليقين قبلياً».-العقل المحض- إمانويل كنت-ترجمة غانم هنا-.
ويقصد باليقين القبلي ما تم إثباته عبر التجربة الحسية، والذي ينبني في ضوئها منطق مضاف لتلك التجربة.
وعندما تتأمل قول «كنت» في المنطق وتقسيماته ستجد أنه كان يلف ويدور حول دلالات غير واضحة ابتدعها للمنطق سواء على مستوى التكوين أو آلية التقويم والتقييم، أو تعدد التوصيفات التي لا يميز بينها بفارق موضوعي، وما نتج عنها من تقسيمات عقّد مفهوم المنطق لتجد نفسك كلما قرأت هذا الكتاب وكأنك في متاهة حقيقية لا تعرف بدايتها من نهايتها.
«فكنْت» أراد أن يؤكد على عدم صحة المقاطعة بين المنطق الفلسفي والمنطق العلمي، لكن عدم وضوح ضبط نقاط الالتقاط بين المنطقين؛ أكد على صحة تلك المقاطعة لا نفيها.
ولعل أسلوب وطريقة تفكير «كنت» وجيله ممن تعاطى مع الفلسفة في القرن الثامن عشر، أسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في انتقال الفلسفة من مضمونها «المنطق البحت» -التفكير لمجرد التفكير- إلى مضمون مستند على تطبيقات تجمع بين جذر المنطق وقابلية القوننة، ولعل دخول مصطلح القانون في هيئته العلمية كان إضافة إلى فلسفة ما بعد القرن الثامن عشر، وكانت التطبيقات التي أصبحت المعادل لموضوعات الفلسفة الميتافيزيقية هي موضوعات اللغة والنقد.
وهنا غيّرت الفلسفة زيها وليس طباعها وتوالدت «المدارس والنظريات في تجاوز متصل بين الفلسفة والنقد واللغة وشجرة النقد الألسني بتفريعاتها من البنيوية وما بعد البنيوية، وهي شجرة تجمع الفلسفي باللغوي، وتشكل منظومات مفاهيمية في التأويل وإعادة صياغة تحولات المعاني وطرح الأسئلة الشائكة بين الإنسان بوصفه «حيواناً ناطقاً وحيواناص عاقلاً»-الغذامي- مآلات الفلسفة من الفلسفة إلى النظرية-ص18-.
وهنا الغذامي يُعيد الفلسفة إلى جوهر معناها «التفكير في دلالاته المختلفة» وبما أن التفكير طبع أصيل في الإنسان، فلن تندثر الفلسفة ولن تُغيب.
وهذا المعنى للفلسفة المتعالق بأنواع المعرفة، سبق إليه الفلاسفة المسلمون «الكندي والفارابي وابن سيناء» إذ ربطوا الفلسفة بالبحث في أنواع المعرفة وعلاقتها بالوجود الإنساني.