د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن حب الوطن ذو شأن عظيم، والحديث عنه حديث لا يمل، فهو يرتبط بتجدد الأحداث وبكل
زمن بما يناسبه، وكثر الاهتمام والتعبير عن حب الوطن قديما وحديثا، وهو مما تغنى به الشعراء في الجاهلية والإسلام.
وبعدما جدّت أمور في العصر الحاضر، وأصبح كل يدّعي محبتّه للوطن، ووجد من تكون محبته للوطن مائلة متأثرة بأفكاره واتجاهاته، كما وجد من لا يدرك حقيقة المفهوم الصحيح لمحبة الوطن، وهو المحبة الصادقة التي ترتبط بالولاء، لولاة الأمر: من حكام وعلماء.
فقد تعددت وجهات النظر، وكثرت المطايا الموصّلة للهدف الذي ينشده كل صاحب منهج، ويدّعيه الأصلح، كما يقول الشاعر:
وكلّ يدّعي وصْلاً لليلى
وليلى لا تدين لذا وهذا
ومهما اختلطت المقاييس لدى بعض الناس، فنحن عندنا قارب النجاة الذي يضمن لنا الوصول إلى بر الأمان، مهما ادلهمت الخطوب، وتفاقمت الكروب.
ألا وهو الرجوع إلى توجيهات نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال: «تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك».
فقد حذّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عليم اللسان، كما حذّرنا من الفتن، التي تتكاثر آخر الزمان وتدع الحليم حيران.
كما أنه عليه الصلاة والسلام، ترك لنا وصيّة بليغة، ووضع لنا قاعدة أصيلة ننطلق منها ونرجع إليها.
فأماّ الوصية فهي عندما خطب في الناس في الحج، خطبة أبلغ فيها، فقال له رجل من الصحابة: يا رسول الله كأنها خطبة مودّع، فأوصنا ؟. قال: (تركت فيكم ما لن تضلّوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي). [أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وقال الترمذي حديث حسن]
وهذا الميراث النبوي، باقٍ في أمة الإسلام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فالقرآن قد حفظه الله سبحانه، عن العبث والزيادة والكذب، حتى لا يدخله التعديل والتبديل، كما هي الحال في كُتُبِ أهل الكتاب التي أخبرنا الله عنها، فكانت الأمة الإسلامية، أمة كتابهم في صدورهم.. تحقيقاً لأمر الله -الحافظ- سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
فقد جاء لفظ هذه الآية الكريمة : بتأكيدات خمسة متتالية، والبلاغيون يقولون في هذا: تأكيد المبني -أي مبنى الجملة- زيادة في تمكين المعنى.
وأماّ ما يتعلق بحفظ السنة: فإن الله قيّض لها رجالاً عدولاً محّصوها: متناً وسنداً، وجرحاً، وتعديلاً، ومعرفة بالرجال.
فخدموها ووثـّقوها، فكان هناك رجال ذوي حرص واهتمام ألفوا الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد، فنخلوا ما قيل، وأبطلوا ما كُذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبتوا السليم.
فكانت كتبهم موثـّقة لسنة رسول الله.. وهذا من الحفظ الذي تطمئن إليه نفس وقلب كل مسلم.
وقد جاء في هذين التشريعين، كل ما تحتاجه الأمة الإسلامية: من خير يتبع، وتحذير من الشر، حتى يسلم منه من أراد الله له الهداية والرشد.
ومن هذا المنطلق نقترب من فهم الاهتمام بفقه الانتماء والمواطنة، ومن أهمية التأصيل الشرعي لفقه الانتماء والمواطنة، وخاصة في المملكة العربية السعودية، التي قامت على المنهج السلفي، في جميع أدوارها الثلاثة، حيث أرسى قواعدها وأصّلها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- منذ بدأ في توحيد أجزاء المملكة، ولماّ قامت هيئة الأمم المتحدة، وطُلب من كل دولة نسخة من دستورها، أرسل مع مندوبه بكلّ اعتزاز وافتخار، نسخة من كتاب الله الكريم، قائلاً: هذا دستورنا الذي نسير بموجبه في جميع أعمالنا.
فالوطن الذي نتكلم عن محبته، يصح إطلاقه على مفهومين:
الأول: البلدة التي ولد فيها الإنسان وعاش فيها، وتربى في ربوعها، وهذه تعتبر في اصطلاح بعض الناس: الأم الصغرى.
الثاني: الوطن بشموليته، وهي الدولة الشرعية: المملكة العربية السعودية، وهي التي يتعاقب عليها ولاة الأمر، ليرعوا شئونها، ويديروا أوضاعها، ويسهلوا ما يريح الوافدين عليها: حجة وعمرة وزيارة، يعملون ذلك بصدق وإخلاص، ووفق بيعة شعبيّة من المواطنين الذين أحبوهم وأحبوا أعمالهم، وفاءً بعهد وعملاً بوعد.
لأن القائمين بأمور البلاد والعباد فيها، حريصون كل الحرص على شرع الله، وترعاه حكومة مسلمة سلفيّة، دينها الإسلام، والتحاكم فيها إلى شرع الله، وولاتها: حكاماً وعلماء، ببيعة شرعية، يدافعون الشرور عن الوطن والمواطن، وفق أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قد أمر الله سبحانه بطاعتهم في قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، [سورة النساء، الآية 59] ومن محبّتهم ومحبة وطنهم امتثال أمر الله في المحبة الخالصة لله.
ويحث على هذه المحبة والولاء، دلالة قول عثمان رضي الله عنه: يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن.
وهؤلاء هم الذين أمر الله سبحانه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعتهم وبيعتهم، ولا يستقرّ أيّ أمر في بلد من البلدان إلا بعطاء صفقه يمين: بالسمع والطاعة، وهذه البيعة عهد مع الله يحرم نقضها: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. [ سورة الفتح، الآية 10]
فالمنظور الشرعي لهذه المحبة المرتبطة بالوطن (الأم الكبرى) في مفهوم بعض الناس، وهي الدولة ممّا يقتضي المحبة والولاء، والثبات على ذلك بعقيدة راسخة، وحبّ عملي لا قولي.
ومحبة الوطن من المنظور الشرعي: ينقسم إلى قسمين:
محبة شرعية دينية.
ومحبة عادية يقتضيها الالتزام لأمور تتعلّق بالإنسان، يخفّ ثقلها بانتهاء الدافع لهذه المحبة.
وهذا الثاني: ينطبق على محبة البلد التي عاش فيها وولد الإنسان، حسب القول: بلدك التي ترزق فيها، وليست التي تولد فيها.
أما البلد الأم وهي الدولة، والولاء لها، لازم من اللوازم التي يقتضيها تأصيل المحبة الإيمانيـّة.
إذْ المحبة الشرعية، لا بدّ أن تلازمها النيّة التي جاءت في حديث رسول الله الآنف ذكره، ولا تكون إلا ببيعة وعهد، يقتضى الالتزام به والوفاء بما يترتب على هذا العهد، الذي وراءه مسئولية كبيرة.
وما يتبع هذه الطاعة، فقد جاء استجابة لأمر الله بالخير والنفع للمأمور، كما هو مفهوم الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، لأنّ هذا الخير، اقترن بطاعة الله، ثم طاعة ولي الأمر، فوجب التزامه، ما دام ولي الأمر لم يأمر بمعصية الله، ولا بانتهاك محارم الله، ويرعى مصالح الأمة.
والمحبة الشرعية لا تخضع للأهواء والرغبات، وإنما تستلزم عرض الأمور المقترنة بمن أحبته النفس بالمسببات، فلا تكون محبة وراءها مصالح ماديّة، أو معنوية، لأيّ غرض من الأغراض.
ذلك أن المحبة الوطنية من المنظور الشرعي، هي عبادة مع الله أولاً، ثم مع ولاة الأمور ثباتاً في المنشط والمكره، ولا تغيّرها الأسباب والمسببات الذاتية، المقترنة بالمنافع والمظاهر المصطنعة، لأن لولاة الأمر، نظرة في الأمور : تحقيق مصالح، أو دفع مفاسد، يقصر فهم كثير من الناس عن إدراكها.. ولا تبين الآثار لذوي الفهم والإدراك، إلاّ بعدما تستبين النتائج.
وبين الحالتين فرق، جعل له القول المأثور قاعدة تفصل الشيء النافع، عن الآخر الضّار وهو: (ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح).
وللحديث صلة....