د. محمد البشر
في المقالين السابقين سلطنا الضوء على آيات كريمات من سورة البقرة، وهذه العجالة تتمة لما بدأنا به، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (207-209) سورة البقرة.
ومعنى الشراء هو البيع، أي أن هناك بعض من الناس باعوا أنفسهم رغبة خالصة لإرضاء الله، والله رؤوف بعباده، ولفظ الشراء أيضاً ورد في سورة يوسف في قول الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}، أي باعوه بثمن زهيد.
وأذكر قصة ظريفة، فقد اعتاد أهل نجد أن يستخدموا كلمة شراء بمعنى اشترى وليس باع، فحدث أن كتب أحدهم شرى فلان من فلان الأرض المذكورة بمبلغ وقدره كذا، كتبه فلان وشهد عليه فلان وفلان، وهنا لم أستحسن إيراد الأسماء واستعضت عنها بكلمة فلان.
وحدث خلاف جعل المشتري والبائع يتقاضيان عند القاضي، فما كان من البائع إلا أن قال كيف له أن يبيع ما لا يملك، فإنه قد كتب شرى أي أنه باع ما ليس في ملكه، فأخذ القاضي ذلك بعين الاعتبار، وحكم بما دله الله عليه.
نعود للآية الكريمة لنقول إن أولئك الذين نذروا أموالهم، وأوقاتهم، وبعد ذلك كله أنفسهم في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، هم أولئك المخلصون لله، وسيرأف الله بهم، ويجزيهم الجزاء الأوفى، على ما قدموه بين يدي الله.
هكذا إذاً فعل بعض من الناس، لكن من المحزن حقاً ذلك المعنى الرائع للآية، قد فهمه البعض فهماً خاطئاً، فخرج على فترات من الزمن ابتداء بالخوارج الذين قاموا على الخليفة الراشد زوج بنت رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مجاميع كرموا في غير مكرم وسموا أنفسهم بالشراه أي الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله، وفي واقع الأمر أنهم كانوا في الاتجاه الخاطئ، فلم يتدبروا الآيات ويحسنوا الاستنباط، فقادهم الضلال إلى الخروج عن جادة الصواب، وقد خسرت الأمة الإسلامية مدة عمرها المديد أعداداً لا تحصى من البشر، وإهدار للطاقات، وتخريب للمنازل والدور، ولم يدركوا أو أدرك زعماؤهم، ولم يدرك أتباعهم أن ذلك الشراء أي البيع لا يتم إلا من خلال ضوابط وقيود، منها طلب الإمام النفير، بعد موازنة الأمور من جميع الجهات.
ولقد تلت تلك الآية الكريمة آية أخرى تحث المؤمنين على الدخول في السلم كافة وعدم إتباع خطوات الشيطان لأنه عدو مبين، ولهذا فإن أولئك الشراء أي البائعين لأنفسهم نخشى أنهم قد تبعوا خطوات الشيطان -والعياذ بالله- وقد حدثتهم الآية بلفظ صريح بأن يدخلوا في السلم كافة، ولكن ذلك الزلل الذي وقعوا فيه بعد أن بين الله لهم الحق من الباطل لن يعود عليهم إلا بالخسران المبين.
في عصرنا الحاضر، هناك الكثير من الذين جانبوا الصواب وارتادوا سبيل الضلال، وعموا وصموا عن الحق، أو ظنوا أنهم على حق، وانساقوا وراء قادة لهم مآرب شخصية، ومغانم ذاتية، واستخدموا أولئك الذين حسبوا أنفسهم شراة حق، وهم في الواقع شراة ضلال، فأساءوا لأنفسهم ولغيرهم، وقبل ذلك كله لدينهم، فأضحت الحال كما شهدها القاصي والداني في بعض الدول الكائنة في منطقتنا.
خرجت منظمات، مثل القاعدة، وداعش، وبوكوحرام، وقد استمرأ قادة تلك المنظمات جلب ضعفاء العقول وذوي الأمراض النفسية، فساقوهم إلى المهالك والمشاركة في الإفساد، وهم يظنون أنهم شراة تنطبق عليهم الآية الكريمة التي تحدثنا عنها آنفاً، إن ما فعله هؤلاء المفسدون قد ظهرت آثاره السيئة في التشكيك في سماحة الإسلام عند الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام، وسماحته، وحثه على السلم وإسعاد البشرية جمعاء، ونهيه عن القتل وسفك الدماء في غير وجه حق.
حمانا الله وحفظنا، وأدام علينا الأمن والأمان، وألهمنا التوفيق والسداد.