د. محمد البشر
عندما يقرأ المرء القرآن الكريم مرات عديدة بشيء من التدبر، فهو في كل مرة يقرأ فيها آيات من هذا الكتاب المنزل من عند الله، يجد شيئاً جديداً، ومعجزة من المعجزات، وهناك من يتقصّى ويدوّن، وهناك من يعتبر، ويكتفي بالاعتبار، وفي كلٍ خير.
في سورة البقرة يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (204 - 209).
آيات كريمات، عظيمات، أنزلها الله على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وبغضّ النظر عن أسباب النزول، الذي قال فيه بعض العلماء قولهم، ليس في هذه الآيات فحسب، بل في أسباب النزول جملة، فإنّ المتدبر لها يمكنه أن يرسم بها لوحة جميلة على واقع الإنسان، منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا، ولهذا فإن الله عز وجل قال: {وَمِنَ النَّاسِ} وهنا يكون الباب واسعاً لينطبق الوصف على فئة قليلة من الناس، مقصودة في الآيات الكريمة، أو هي لكثير من الناس، منذ خلقه وتكاثره حتى يومنا هذا. والآيات الكريمات تتحدث عن النفس البشرية، عند بعض من الناس الذين يجيدون فن القول، والتملق، وإظهار خلاف الباطن، والتوسع في المديح والنفاق، مع حلف الأيمان على ذلك، ويشهدون الله على ما في قلوبهم، مع أنهم خصوم لدودون.
وهذه الفئة من الناس كانت في السابق، وما زالت موجودة في حاضرنا، ولعل كتب التاريخ، تزخر بالكثير من القصص والمواقف التي تتجلى فيها هذه النفس سواء كان ذلك على مستوى الأفراد، أو الجماعات، أو الأسر، أو الدول، مع بعضها البعض، رأيناها أيضاً في قصص الأنبياء كقصة أخوة يوسف عليه السلام مع أخيهم يوسف، فقد بينوا لوالدهم يعقوب عليه السلام أن نيتهم أن يذهبوا به ليسعدوه وليرتع ويلعب، وكانوا يبيتون في نفوسهم غير ما يظهرون لوالدهم، من قول جميل.
إن كانت قصة يوسف عليه السلام مع إخوته خاصة بأسرة معينة، ولم تتجاوزها إلى غير ذلك، مع ما فيها من عبر عظيمة في مراحل تلك القصة متعددة الأحداث، إلا أنّ هناك أحداثاً أخر في الشرق والغرب.
ولعلنا نشير إلى اتفاق القائدين الصينيين اللذين عاشا في ظل إمبراطورية أسرة « تشن» التي حكمت الصين في الفترة 230 قبل الميلاد ، لكنهما تآمرا على الإمبراطور واسمهما « ليوبانغ» و»شيانغ يو» وبعد أن زحف شيانغ يو على ملك «شين» قام حليفه «ليوبانغ» الذي كان يظهر له الود والتحالف، بنقض العهد، وهجم بعدد قليل من الجند على مدينة بكين. واستمرت الحرب بين الحليفين السابقين والعدوين فيما بعد، أربع سنوات.
ولنا عبرة في قصص المنافقين مع رسول الله صلى لله عليه وسلم الذين كانوا ألد الخصام، ومع هذا كانوا يظهرون الإخلاص والمحبة، فيعجب الناس قولهم، وإذا ما ذهبوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعوا في الأرض ليفسدوا فيها، وكانت غايتهم إهلاك الحرث والنسل، حسداً من عند أنفسهم.
وفي شعر المتنبي نجد ذلك التناقض في مدحه لكافور ثم انقلابه عليه، فهو القائل فيه:
وما كل هاو للجميل بفاعل
ولا كل فعّال له بمتـمم
فدىً لأبي المسك الكرام فإنها
سوابق خيل يهدين بأدهـم
إذا منعت منك السياسة نفسها
فقف وقفة قدامة تتعلـم
ويجدر بنا أن لا نذكر شيئاً من هجائه له، لا سيما في شهر الصوم الكريم، لكننا سنورد أبياتاً قالها بنفسه عن نفسه، إذ يقول:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافياً
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضياً
تظن ابتساماتي رجاءً وغبطة
وما أنـا إلا ضاحكاً من رجائيا
ولولا فضول الناس جئتك مادحاً
بما أن في نفسي به لك هاجيـاً
إلى آخر القصيدة، فهو هناك يقول عند كافور القول الجميل، وفي نفسه حقد دفين، حتى أن ابتساماته كانت استهزاء، وليست كما يراها كافور، غبطة ورجاءً، وهكذا كان المتنبي كما قال عن نفسه غير صادق مع كافور في ولائه ومحبته، وغيره كثير، ولعلنا في المقالة القادمة إن شاء الله، نكمل ما بدأناه حول ذلك التصوير البديع للآية الكريمة، وما أظهره لنا التاريخ والواقع من حقائق تجسِّدها تلك الآية.