د. محمد البشر
في مقال الأسبوع الماضي كانت الوقفة عند قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}. سورة البقرة 204 - 208.
لعلنا في هذه العجالة يكون لنا وقفة عند قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}، ففي هذه الآية الكريمة، يتضح أن أولئك القادرين على تنميق الكلام، والمجيدين لسحر البيان، يستطيعون بسلاحهم اللفظي، وإقناعهم العقلي غير السوي، أن يسعوا في الأرض لتحقيق غايات ذاتية، من خلال الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
وقد وقع ذلك في الماضي، وما زال يقع في الحاضر لنأخذ مثلاً ما فعله هولاكو عندما دخل بغداد غازياً، فقد رمى بملايين الكتب في نهر دجلة حتى اسودّ النهر من الحبر، وهذا الإفساد من خلال إضاعة نفائس الكتب أمر ليس له مبرر غير أن نفسه قد جبلت على ذلك، وإلا فهو قد احتل الأرض وأخذ المال واستعبد الرجال وأسر النساء وليس للكتب ذنب، وليس من بقائها خوف على مستقبله، فالعلم الشرعي والدنيوي ما زال في صدور الرجال وفي مكتبات البقاع الأخرى ومنازل الناس، ولعلنا نتذكَّر أن الشيخ ابن تيمية - رحمه الله - قد كان له موقف قوي وبيان ردَّ به على أولئك المفسدين سواء باللسان أو من خلال السيف، قبل ذلك كان الخوارج قد استخدموا بيانهم الساحر وصوتهم الهادر، للإفساد، متذرعين بحجج واهية، لكنها مع كل أسف قد أغرت البعض للوثوب على مركبهم، والسير في محفلهم، ولبس جبتهم، لنيل مرام فشلوا في تحقيقه، لكن الإفساد قد وقع، وإهلاك الحرث والنسل قد تم، ومن منا لا يعرف قطرى بن الفجاءة وقدرته البلاغية، وغيره كثير من قادة تلك الفتنة في ذلك الزمن، وقد جلبوا بقولهم البديع وعلمهم غير السوي، عدداً غير قليل من الناس، مشوا في ركابهم، ورفعوا أشرعتهم، وحزموا حبالهم، فكان ما كان مما لا يخفى على الكثير من الناس. في الأندلس كان هناك نهج مماثل في مراحل متعددة من تاريخه الغني والمديد، ففي الفتنة الكبرى نجد إفساداً من مجموعة غير يسيرة، مثل عبد الرحمن المنصور، حتى إن أحد المعاصرين لتلك الأحداث قد قال: من أعجب ما رأيت من عِبر الدنيا أنه تم من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة المؤرخ إلى نصف نهار يوم الأربعاء تتمة الشهر، وفي مثل ساعته فتح مدينة قرطبة، وهدم مدينة الزهراء، وخلع خليفة قديم الولاية هو هشام بن الحكم، وتنصيب خليفة جديد لم يتقدم له عهد، ولا وقع عليه اختيار، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزوال دولة آل عامر، وكرور دولة بني أمية وإقامة جنود من العامة المحشودة، عوض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب أضدادهم، تقمحهم العين، وجرى ذلك كله على يد بضعة عشر رجلاً من أراذل العامة حجامين وخرازين وزبالين، تجاسروا عليه، وقد تكفل المغدور بوقوعه فقد تم من ما لم يكن في حسبان مخلوق تمامه، وقد كان مع الأسف لأصحاب القدرة الكلامية شأن في ذلك كما هي حال، ابن ذكوان، وابن برد حيث قال أحدهم:
إن ابن ذكوان وابن برد قد ناقضا الدين بعد عهد، والقصيدة طويلة، في حاضرنا، هناك حقيقة واقعة فقد استطاع بعض من لديهم شيء من البيان، ومع توفر أدوات الاتصال الاجتماعي جلب عدد من صغار الأعمار، أو صغار العقول، أو بهما معاً ليسيروا خلف أفكار ضالة، ومنابع علم مخالفة للحق، فأفسدوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، وهذا واقع أمام ناظرينا في العراق وسوريا، من طوائف وأعراق مختلفة، وليس من طائفة بعينها، ففي كل طائفة، أو عرق عدد غير قليل من أصحاب الألسن المرتفعة، والألفاظ المنمقة، والأساليب المضللة فينساق وراءها عددٌ غير قليل يكونون هم وقود تلك الحرب، بينما يعيش أولئك المحرضون في بقاع شتى من العالم يتنعمون برغد العيش، ولو أن الأمر اقتصر على هؤلاء وأولئك، لكان الأمر أهون لكن المصيبة الكأداء، أنه قد تم تخريب منازل، وشرد الناس، وهجر الكثير بسبب انتماء طائفي أو عرقي، وأضحى الكثير مشردين لا يعلمون أين هم ذاهبون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، راجين من العلي القدير في هذا الشهر الكريم أن يصلح أحوال المسلمين.