د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
البيانات التي أصدرتها وزارة الداخلية وكشفت فيها عن أسماء وأعمار المتورطين في حوادث إرهابية، مثل جرائم مساجد الدالوه والقديح والدمام، وقتل بعض أفراد قوى الأمن في الرياض، تجعلنا نطمئن ونتساءل.. نطمئن بسبب فعالية الإجراءات الأمنية التي قادت سريعاً إلى اكتشاف وملاحقة مرتكبي تلك الجرائم وشركائهم والقبض على بعضهم..
وأما هؤلاء الإرهابيون فنجد أن أعمار بعضهم صغيرة - تتراوح بين 15 و 20 عاماً - وهي سن المراهقة التي تتصف بالقابلية للشحن العاطفي والتهور والانبهار بالشخصيات المؤثرة.. إنها الصفات نفسها التي تعتمد عليها التنظيمات ذات الطابع الحركي الانقلابي في جذب الأنصار وتجنيدهم لأغراضها، مثل الأحزاب الشيوعية والعنصرية - والتنظيمات الطائفية المتطرفة مثل حزب الله وداعش وغيرهما.. ولا يستعصي على الفهم أنها تركز على هذه الفئات العمرية لكونها تُشكِّل كوادر المستقبل ولسهولة استمالتها، ولأنها - بعد تطويعها - تصبح مسلوبة الإرادة لا تفرِّق بين الوسيلة والغاية. الصفات المميزة لسنّ المراهقة تشارك في صقلها - كما هو معروف - البيئة المحيطة بالشاب، سواءً كانت عائلية أو مدرسية أو اجتماعية، ولكن هذا لا يعني أنه في كل بيئة متشدّدة دينياً أو طائفية النزعة تولد شخصية إرهابية، كما لا يعني هذا أن كل إرهابي تكفيري مثلاً هو نتاج التربية في بيئة طائفية أو اجتماعية متطرفة؛ فقد يكون الإحباط من بيئة معينة سبباً للاندفاع إلى التطرف الإرهابي، كما هو مشاهد من أسراب الملتحقين بداعش من أقطار أوربية وإسلامية علمانية. إنهم وشبابنا المغرّر بهم يأتون من بيئات وثقافات ومستويات تعليمية مختلفة، ويخضعون لأمر تنظيم واحد؛ فما الذي يجمعهم تحت مظلة هذا التنظيم؟ إنها آليّة واحدة تسوق تلك المجموعات المتنافرة إلى مظلة التنظيم.. فهي تبدأ بوجود قابليّة النفوس لكراهية الغير.. وعلى سبيل المثال تكره بعض المجموعات مجتمعها الذي تعيش فيه بسبب حرمانها من فرص العيش الكريم أو بسبب الشعور بالظلم، أو بسبب المشاعر العنصرية أو الطائفية أو الدينية.. والكراهية تُنشئ عداوة تجاه المكروهين تتخذ شكل موقف متطرف تجاههم. هذا التطرف يُولِّد الاحتقان، فيبحث المتطرف عن منفذ يُفرِّغ فيه احتقانه، وعندما لا يجد في عدوّه الذي يكرهه ثغرةً ينفذ منها، فإنه مستعد لقبول أيّ منفذ يعرض عليه.. وهنا يبرز دور تنظيمٍ كتنظيم داعش مثلاً، فإنه يقدم الوسيلة المطلوبة لجذب الأنصار الذين تولَّدت عندهم القابلية للكراهية، فيعلن بناءً على فتاوى شاذة تكفير المسلمين، ويدعو لجهادهم تحت شعار إقامة دولة الخلافة الإسلامية - كما يريدها - مُلوِّحاً بوعدٍ براق: إما النصر أو الشهادة، ومن ثَمّ دخول الجنة والاستمتاع بالحور العين.. وقد وجد تنظيم داعش المكان المناسب في سوريا والعراق وليبيا باستلال الأوضاع المضطربة هناك.. أما في المملكة فقد واجه صخرة صمّاء يعرف أن ناطحيها الذين سبقوه من خلايا القاعدة لم يستطيعوا أن يُوهنوها.. لكن التنظيم الذي يضم بين قيادييه ومنظريه أعضاء سعوديين توقع أن فئة قليلة من الشباب السعودي تشرّبت (ثقافة التحريم) - كما يسمِّيها الباحث محمد العتيّق في كتابه الموسوم بنفس الاسم - من الفتاوى والآراء والمواقف المتشدّدة أو المتطرفة البعيدة عن الوسطية في العديد من شؤون الحياة، فتولّد لديها شعور الكراهية حيال المخالفين من أهل السنة، وبدرجة أكبر حيال الشيعة الذين كان غلاتهم ومتطرفوهم يُجاهرون من على المنابر ومن القنوات الفضائية بآراء وبدع تخالف الثوابت عند السنة وتكفِّرهم، وما كانوا يسمعونه ويقرؤونه لبعض دعاة السنة المشهورين وخطبهم من نبش للتراث التاريخي واتهامهم بالشرك وغير ذلك. كل هذا يُشكِّل مادة تُحقن بها أدمغة الشباب لتزيد من الكراهية واحتقان التطرف.. وقد وجد التنظيم في هذه الفئة فريسة سهلة للتأثير عليهم وإقناعهم بفريضة جهاد هؤلاء المخالفين وتجهيزهم بالأحزمة الناسفة لقتل المصلّين، فعند التنظيم لا تهمّ الوسيلة ما دامت تخدم غرضه، وهو زعزعة الأمن وإضعاف سلطة الدولة، وإثارة الفتن في المجتمع السعودي بأسره - من شيعة وسنة.. ولكن الشباب المخدوع بدعاية مضلِّلة أعماه التطرف والكراهية والطمع في لذّة لقاء الحور العين عن استبصار الحق والجحيم الذي ينتظر من سفك دماء المؤمنين متعمّداً.. لكن جهود حكومتنا الحازمة دحرت مثيري الفتن وحافظت على استقرار الأمن والطمأنينة في هذا البلد وبين أهله.. وربما خاب أمل التنظيم الإرهابي من مظاهر التلاحم الشعبي على إثر التفجيرات الأخيرة.. لكن المجتمع يحتاج إلى التحصين الدائم ضد الإرهاب، وإلى أن تتضافر جهود الدولة مع جهود المجتمع - لا سيّما المجتمع المدني - لكي ينتشر السلم الاجتماعي ويتفق الناس على الأهداف والمصالح المشتركة، وتنحية ما يولِّد القابلية للكراهية والتطرف، ومن هذه الجهود:
- التوعية باحترام الرأي الآخر، وأن هذا لا يعني بالضرورة موافقة عليه أو تنازلاً عن الرأي الخاص، بل احتراماً لحق الاختلاف في الرأي، وعدم ترجمته إلى كُرهٍ لشخصه.
- سنّ الأنظمة التي تُعاقب على إثارة التفرقة بين فئات المجتمع بالقول أو الفعل أو الكتابة، سواء في الفصل أو على المنبر أو عبر وسائل الإعلام والتواصل أو في مقر العمل أو النشاط الدعوي.. وهذا مهم لإيقاظ الوعي بحقوق المواطنة واحترام القيم.
- النظر في إمكانية تقليص الخلاف في المفاهيم الدينية في أوساط كلٍّ من السنة والشيعة أنفسهم، وفيما بين السنة والشيعة، ومراجعة مناهج التعليم في ضوء ذلك.. أحياناً يشتد الخلاف بين الفرقاء بسبب المبالغة - أو التطرف - في تفسير موضوع معيَّن أو إبداء الرأي بشأنه، وليس بسبب الموضوع نفسه.
- توثيق عرى الترابط الوطني عبر مؤسسات المجتمع المدني، مثل المؤسسات الدينية ومجلس الشورى ومجالس المناطق ومركز الحوار الوطني والجامعات والأندية الثقافية والرياضية والمؤسسات الإعلامية والاقتصادية والجمعيات المهنية والخيرية.
- إبراز المناشط التي تُنمِّي في الشاب روح المسابقة والطموح والشعور بالقيمة الذاتية والاعتراف من المجتمع. المجالات هنا كثيرة وموجودة ولكن نطاقها محدود، ويجب التوسع فيها إلى أقصى حدّ.. فاستقطاب اهتمام الشباب في رياضة كرة القدم لا يغني عن توجيه حماسهم لمسابقات وهوايات رياضية أخرى، يكون فيها من الحوافز ما يدفعهم للاهتمام بها والمشاركة فيها على المستوى المحلي والوطني.. وفي مجال آخر نجد كثيراً من الشباب يتطلعون إلى العمل التطوعي الاجتماعي الذي يشعرهم بالرضا عندما تظهر لهم نتائج خدمتهم لمواطنيهم - سواءً في مجال الخدمة الاجتماعية والصحية أو صحة البيئة أو الإنقاذ في حالات الكوارث وغيرها.. ويبدأ التدريب على ذلك والدخول فيه من خلال النشاط اللا صفّيّ في المدارس ومنهج التربية الوطنية. إن المسارعة إلى الخيرات في المجالات الدنيوية أمر مطلوب ويحض عليه الدين، ويقوِّي النزعة الإنسانية لدى الفرد فتحِلّ محلّ النزعة التعصبية.