د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أصابع البطاطس هي كما تعلمون تلك الشرائح الأصبعية المقلية بالزيت والمملّحة، التي تقدم غالباً مع الهامبورجر وأصناف مختلفة من الأطعمة في المطاعم وفي البيوت أيضاً. وبأصابع التبغ أعني بكل بساطة: السجائر. الجمع بينهما في عنوان واحد قد يكون موضع استغراب، لأنهما مختلفان في كل شيء تقريباً من حيث موادّ كل منهما ومن
حيث غرض الاستهلاك؛ فالأول من أجل لذة الأكل، والآخر من أجل لذة الكيف. لكنهما - مع ذلك- يتشابهان في الضرر الذي يلحق بالمستهلك النهم.
سأنقل حرفياً ما جاء في لقطة من لقطات التوعية الصحية بإحدى القنوات حول أصابع البطاطس - وهو ما يردّده أيضاً خبراء التغذية:
- بطاطس مقشرة، أي خالية من الفوائد الغذائية المتركزة في القشرة، ومكتنزة بالنشويات والدهنيات.
- هي مقلية في الزيت مما ينتج عنه مادة الأكريلاميد المسببة للسرطان.
- بها من الملح ما يجعلها مستساغة أكثر، ولكن بكمية ترفع ضغط الدم.
من المحتمل إذن أن يؤدى التهامها على المدى الطويل إلى البدانة وإلى ارتفاع ضغط الدم وإلى السرطان. لا حاجة للتأكيد أن الإصابة بأيٍّ من هذه العلل لل تحصل في كل حال، كما أنها يمكن أن تنتج من أسباب أخرى. لكن التناول المستمر لأصابع البطاطس يظل من عوامل التعرض لخطر الإصابة بواحد أو أكثر من تلك الأمراض التي تعدّ أمراضاً غير سارية، مرتبطة بنمط المعيشة في حياتنا العصرية. تماما مثلما نعدّ استهلاك التبغ (تعاطي التدخين) من ظواهر نمط معيشتنا الحاضرة. وأضرار التدخين على المدى الطويل معروفة منذ ستينيات القرن الماضي، وأهمها وفقاً للمراجع الطبية:
- الإصابة بسرطان الرئة.
- تصلب شرايين القلب والجهاز الدوري.
- ارتفاع ضغط الدم.
- الالتهاب المزمن بالشعب الهوائية.
وقد بلغ اليقين العلمي من أضرار السجائر (كأحد أنواع التبغ - وكلها ضارّ) حدّاً جعل القضاة بالولايات المتحدة يحكمون بالتعويض المالي الضخم على شركات التبغ حين أثبت المحامون علاقة بين إصابة موكّليهم بسرطان الرئة وتعاطيهم للسجائر التي أنتجتها الشركات خالية من تحذير المتعاطين من احتمال الإصابة بالسرطان. ولم ترفع قضايا مماثلة بالنسبة لأصابع البطاطس المقلية - على الرغم من تشابه الأضرار - لأن المشكلة لم تكن في البطاطس نفسه، بل في قلي الأصابع وتمليحها. وهي عملية تقوم بها الآلاف من المطاعم وملايين البيوت في العالم.
ما الذي يمكن عمله لحماية الصحة من ضرر مبين؟ عندما طرحت على أولادي - في جلسة على مائدة الإفطار - فكرة إصدار أمرٍ على جميع محلّات إعداد الطعام يمنعها من تجهيز وتقديم أصابع البطاطس المقشرة والمقلية والمملٌحة، ثار الأولاد في وجهي صائحين: لم يفلح منع التدخين في الأماكن العامة وأماكن العمل ولا رفع سعر السجائر في القضاء على عادة التدخين أو تحجيمها، ولم يترتّب على ذلك منع استيرادها وبيعها، فكيف تتوقع أن يكون أمر البطاطس أهون؟ وكانت حجتي أن المبتلى بتدخين السجائر يستنشق النيكوتين أيضاً - وهو مادة تؤثر على الجهاز العصبي فيصبح المدخّن معتاداً عليها، ولو منع التبغ من الدخول للمملكة نهائياً فالخطر قائم بأن يلجأ المدخنون الذين لا يريدون الإقلاع إلى بدائل أشدّ ضرراً وأخطر من حيث الإدمان عليها، أو تزدهر تجارة تهريب التبغ. لذلك لا يبقي إلا تكثيف جهود التوعية وتشجيع الإقلاع عن ال تدخين والحدّ من انتشار تعاطيه بوسائل عملية مثل منعه في وسائل المواصلات والأماكن العامة ومكان العمل. أما منع أصابع البطاطس فالأمر مختلف. فالبدائل من البطاطس نفسه متوافرة وهي لذيذة وغير ضارّة. فإنه يمكن طهيها أو شيّها في الفرن مع الاحتفاظ بقشرتها المفيدة غذائياً. إلا أن هذه الحجة تهاوت أمام أصابع المحتجين بالقول: لن تستجيب المطاعم للمنع وستقاومه بكل الحيل والوسائل، لأنها تخسر الكثير من الزبائن من جرّاء المنع - هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلو تحقق المنع فعلاً، فلن نستطيع منعها في البيوت، ما دام البطاطس متاحاً في السوق ويسهل تقشيره وإعداده، لا سيما أنه شهيّ ومرغوب. إذن لا يبقى إلا أن تُطبق استراتيجية المكافحة نفسها التي تُطبق لمكافحة التدخين - أي العمل على منع تقديم أصابع البطاطس المقلية والمملّحة في أماكن تقديم الطعام العامة مثل مقاصف المدارس ومطاعم النوادي والمؤسسات والمصانع والفنادق ونحوها مع تشجيع تقديم بدائلها؛ ثم التوعية المكثفة لأفراد المجتمع - لا سيّما ربّات البيوت - حول العواقب بعيدة المدى على الأطفال والشباب من جراء الانسياق وراء لذّة قضم أصابع البطاطس الذي قد يفضى إلى عضّ أصابع الندم مستقبلاً. تكمن المشكلة الفعلية في أن الجهات المسؤولة لا تقدر على منع عادة ضارة - على الرغم من سهولة المنع في حد ذاته - لأن الذين قد يصيبهم الضرر، وهم، يُعدّون بمئات الآلاف، هم الذين يريدونها ويقاومون منعها، فإن لذة تعاطيهاحجب عنهم رؤية الضرر البعيد. الذين يصرّون على تدخين السجائر في مجتمعنا السعودي تزيد نسبتهم عن 20% من مجموع الذكور البالغين خمسة عشر عاماً فأكثر - وفق نتائج مسح أجرته وزارة الصحة عام 1433هـ. أما نسبة المعتادين على أكل أصابع البطاطس المقلية والمملحة وكم مرة في الأسبوع فغير معروفة إحصائياً لكاتب هذا المقال، ولكن سوقها الرائجة - خاصة بين الأطفال والشباب - توحي بحجم المشكلة. هذا الانتشار الواسع للأغذية المقلية المملّحة (وأصابع البطاطس نموذج لها) وللتدخين ( والسجائر هي النمط السائد) يسهم في انتشار ضغط الدم المرتفع الذي بلغت نسبته في المتوسط - وفق المسح المشار إليه - بين السكان السعوديين، ذكوراً وإناثاً، البالغين خمسة عشر عاماً فأكثر 15.2% - أي حوالي مليونين ونصف المليون نسمة. لكن نسبة الإصابة ترتفع والمضاعفات على القلب والأوعية الدموية تظهر مع التقدم في السن. وقد أشرت آنفاً إلى احتمال الإصابة بالسرطان، وهو ثابت في حالة التدخين؛ ومرجّح - حسب بحوث طبية متفرّقة في حالة الأغذية المقلية بالزيت. وهكذا قد يكون نمط المعيشة الخطأ في حياة أناس كثيرين (بين قضم أصابع البطاطس في الصغر وشفط أصابع التبغ في الكِبَر) تربة خصبة لنشوء أمراض خطيرة. أمام هذه الأضرار الصحية يتعيّن تسخير كل الجهود لإقناع المغرمين بالتدخين أوأكل الأغذية المقلية بالتخلّى عن عاداتهم - من خلال التوعية المكثفة والمنع الحازم في الأماكن العامة. ولو لم يتحقق إلا خفض الاستهلاك، فإن هذا مدعاة للرضا.