د. محمد عبدالله العوين
قبل الصحوة، وقبل كتبها التي تدعو إلى العزلة الشعورية، والهجرة عن المجتمع، ومقاطعة جوانب الحياة فيه إلى أن يعود إلى الإسلام من جديد، وقبل شيوع مفهوم جاهلية العصر، والحاكمية، والطليعة المسلمة، والتغيير، والانقلاب الإسلامي، والحركة الإسلامية، ومفهوم «إما أن يؤخذ الإسلام كله أو يترك كله « وقطرات دمائنا شموع تضيء الطريق لإقامة المجتمع الإسلامي من جديد « وسلسلة طويلة من دعوات التغيير والانقلاب على المجتمع والتنكر له وتجهيله والنقمة عليه واعتزاله وتكفيره واحترابه واعتباره العدول الأول القريب قبل العدو البعيد؛ قبل كل هذا الوقود المتفجر والشحن المتواصل لأجيال متعاقبة من الشباب نهض به من يسمون رموز الصحوة الإسلامية المزعومة التي تطورت وتعقدت وتشعبت واحتقنت إلى أن أنتجت اليوم خرائط الدم والتفجير واستباحة كل ما حرمته الأديان السماوية وجرمه الإسلام؛ من قتل واغتصاب وسلب ونهب وتخريب وتشريد وقطع للأرزاق والمعايش وإفساد للحياة وانتهاك للمعاهدات والتعايش مع أصحاب الديانات واختراق للمواثيق الغليظة التي يأمن فيها كل صاحب دين أو مله على دينه أو ملته كما عاشوا قرونا طويلة في ظلال حكم الإسلام والمسلمين؛ قبل كل تلك المفهومات الضالة الآبقة التي أنتجتها ما يسمى بالصحوة أو الحركة الإسلامية التي أينعت ثمارا مرة كالحة؛ كالجماعة السلفية المحتسبة وجماعة المسلمين وجماعة التكفير والهجرة والقاعدة وداعش وبوكو حرام وسلسلة طويلة من المسميات التي تبدأ وتنتهي بالتنكر للمجتمع والدخول معه في حروب دموية طاحنة؛ المسلمون وحدهم هم الخاسرون فيها؛ بما يراق من دمائهم، وما يدمر من أوطانهم، وما يحتل من أراضيهم، وما يمكن فيه لأعدائهم؛ بسبب ضعفهم وانقسامهم على أنفسهم شيعا وأحزابا.
قبل أن تعرف تلك المسميات، وقبل أن تولد تلك الأجيال التي تلقت تلك المفهومات؛ أي قبل التسعينيات الهجرية من القرن الماضي وما بعده بسنوات قليلة كانت الحياة في بلادنا وفي بلدان عربية كثيرة آمنة مستقرة هادئة تسير على وتيرة بطيئة في النمو ولكن على قواعد متينة من الأمن الاجتماعي والتصالح السياسي والتوافق بين التيارات الفكرية التي تختلف فيما بينها اختلافا لا يصل إلى حد العنف والقتل ومصادرة الحق في الحياة والوجود.
كان الشاب المتدين مندمجا في مجتمعه مع غيره من الشباب الذين لا يشبههم ولا يشبهونه؛ ولكنهم لا ينفرون منه ولا ينفر منهم.
وكان الشاب المتدين منسجما مع من يكبرونه في السن من الآباء والأعمام والإخوان، يجلس معهم ويستمع إليهم ويحترم آراءهم، ويجلسون معه ويستمعون إليه، ولم تنشأ هذه القطيعة الشعورية والنفسية بين الأجيال؛ القطيعة التي وصلت إلى الدعوة إلى التنكر للأهل من آباء وإخوة والدعوة إلى قتلهم إن لم يعلنوا موافقتهم على أفكار الشاب الحدث المندفع ويسلموا له بصحة أفكاره؛ هذه الدعوة التي تنطلق من مفهوم «التكفير» الذي اعتنقه الشاب وأباح له سفك دم أقرب المقربين إليه؛ كما استمع وشاهد آلاف من الناس تلك الدعوات في موقع التواصل الاجتماعي «اليوتيوب» وكان المتحدث في ذلك التسجيل أحد أبناء بلادنا المخدوعين الذين انحرفوا واعتنقوا التكفير.
لم ينقسم المجتمع على نفسه، ولم يشعر بالضغينة بعضه على بعضه، ولم يفت حدثاء أسنانه بضلال كبار علمائه، ولم يرفع راية «الجهاد» ضد بلاده وقيادتها وعلمائها شباب صغار مندفعون يستبيحون الدم الحرام بفتاوى مدعين ليس لهم سابقة في علم أو بحث أو درس، ولم يبلغ الإقدام ولم تدفع العزيمة ولو حتى مجرد هاجس أن يرتكب أحد من شباب تلك السنين التي سبقت الصحوة أن يفجر مبنى حكوميا أو يغتال جنديا للدولة يحرس الأمن، أو يرفع عقيرته بكل البجاحة والصفاقة والسفه يكفر المجتمع كله؛ حكاما ومحكومين!
لقد ولى ذلك الزمن المهذب الآمن الجميل على بساطته، وحل زمن يضحي فيه الابن بأبيه !
إنه منكر وقبح لم يدع إليه سوى من جهل المجتمع ودعا إلى العزلة الشعورية عنه وهجره وتكفيره.