د. محمد عبدالله العوين
لم يكن يدور في خلدك أيها الفتى القروي وأنت تبحلق بشغف واندهاش في شاشة التلفزيون الصغيرة العتيقة في بيت أحد أبناء العمومة في الرياض أن تقترب حتى الاقتراب من محيط المبنى الذي تتحدث فيه تلك الشخصيات الباذخة المفصلة تفصيلا والمرسومة رسما لإتقان الحديث والأداء، إنهم عالم من عالم آخر لا تنتمي إليه أيها القادم من أعماق الريف؛ فلتقنع بقصاصات الجرائد والمجلات التي تراكمها فوق بعضها ولتقنع بكتبك المثالية التي تقرؤها وكأنها بداية ونهاية هذا الكون، أو كأن الدنيا لا بد أن تعود إليها وتستشيرها في أية حركة تفعلها أو قرار تقدم عليه!
تحلم أنت وتتخيل، وتسرف في الخيال الغرائبي البعيد؛ لتخلق لك بيئة جديدة غير بيئتك البسيطة الهادئة التي نشأت فيها؛ فهي لا تدري ما الكتابة، ولا تعلم ما خلف هذا الجهاز الذي ينطق ويتحدث ويسلي ويجلب أخبار العالم، فما شأنك وشأن أقوام لست منهم وليسوا منك، وما تلقيت من المعارف والعلوم ما تلقوا ولا تذوقت من ألوان المدنية والحداثة ما تذوقوا وتطبعوا حتى غدت لهم مسلكا وشخصية، فهل تصدق نفسك أيها القروي الساذج أن تتحدث بطلاقة كما يتحدثون؟ أو أن ترتدي من الأزياء كما يرتدون ؛ فتبدو في أناقة ذلك الكاتب المشهور أو قياقة ذلك المذيع الوسيم؟! يا أيها الفتى الذي لم يجرب بعد لبس العقال، ولم يعتد بعد على أن يصطبغ وجهه ببريق الغترة البيضاء لا تحلم، لا تذهب بعيدا في خيالاتك التي أشبه ما تكون بأحلام وخيالات المهووسين بأحلام اليقظة!
إن منزل أسرتك الطيني المتواضع في القرية لم يدخله راديو إلى هذه اللحظة التي سرح فيها بخيالاتك الطموحة؛ ويا طالما سمعت أن دخوله إلى المنزل سيجلب معه شياطين الإنس والجن، أنسيت معركة عصر ذلك اليوم الصيفي حين دفعتك جرأتك وتوسلت إلى والدتك أن تساعدك على شراء راديو صغير تخبئه في مأمن من آذان مسترقي السمع ؛ لئلا يتناهى صوته إلى مسمع والدك فيغضب، وأنت لا تريد غضبه ولا تحتمله؛ وقد أشفقت عليك أمك أيما إشفاق ونصحتك أن تجتهد في إخفائه بما تملك من حيل الإخفاء والمواراة، وفعلت ذلك بضعة أسابيع؛ ولكنك لم تطق الصبر على التواري عن الأعين ساعات تستمع فيها إلى ما لذ وطاب من إذاعات الكويت أو قطر أو الرياض شيئا من ساعات الليل أو بعضا من ساعات النهار؛ فاندفعت عصر ذلك اليوم بشجاعة أو حماقة الفتى المتطلع لإثبات ذاته ووضعته علانية بصوت مرتفع في فناء المنزل، واختبأت لترى ما سيحدث من رد الفعل على هذه الخطوة التي ستدخلك وتدخل الأسرة كلها إلى العالم الجديد المتفتح، ولعل الحظ لم يكن في صالحك؛ فقد كان المؤشر على إذاعة قطر، وكان البرنامج جادا، وأنت مختبئ في الغرفة المواجهة وقد أحكمت على نفسك إغلاق الباب وكأن الغرفة خالية، ولكن البرنامج الجاد انتهى فجأة وبدأت فنانة عذبة رقيقة الصوت علمت فيما بعد أن اسمها «فايزة أحمد» تغني: يمه الأمر على الباب! وبالفعل كان القمر على الباب قادما من السوق وأنت تتلصص على أية حركة في فناء المنزل؛ فإذا هو يلقي ما بيديه بعجلة وانفعال وغضب ويمسك بالراديو الصغير ويرفعه إلى أعلى من رأسه بمسافة تقرب من المتر ثم يهوي به على الأرض حتى أصبح قطعا متناثرة وسكت الصوت الشجي العذب الذي كان يصدح وسكتت معه أيضا أحلامك المتقافزة في صدرك؛ وكأنك أنت وخيالاتك وجهازك الصغير الذي نقدت ثمنه خمسة وأربعين ريالا جمعتها أمك ريالا على ريال تناثرت وتمزقت قطعا قطعا بين الدرج الملتوي والمصابيح الدائرية الملتفة على باحة المنزل!
تستعيد تلك الذكريات المرة أو الحلوة الآن وقد كتبت وأذعت وتلفزت، ثم زهدت في كثير مما حلمت به؛ فإلى أين أنت ذاهب؟! أهي لعب تكسرها كطفل عابث ملول بعد أن تشبعت من المتعة واللعب؟!