عماد المديفر
التاريخ يقول إن فرنسا هي الأعمق فهماً، والأقدم صلة بالمنطقة وتاريخها، وإِنسانها، وحضارتها، ومساهمة الفرنسيين في الحضارة العربية الحديثة بارز بوضوح، تماماً كما هي مساهمة العرب في الحضارة الفرنسية، وعلاقتنا بالفرنسيين، قديمة، ووثيقة، وإيجابية،
هذه الإيجابية التي قفزت بشكل لا مثيل له في العقود القليلة الماضية، لتصبح «إيجابية جداً»، وهو ما يولد عمقاً في الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة، قد لا يتوافر نظيره.
كما أن العوامل الموضوعية الجيو استراتيجية، هي الأخرى، الأمنية منها والعسكرية، والمصالح الاقتصادية، وطبيعة القضايا المشتركة، والتحديات التي نتشارك في مواجهتها مع الفرنسيين، وتتطابق عندها الرؤى، وتتناغم، في جميع الملفات المنظورة دون استثناء، وعلى رأسها قضايا الإرهاب، والوضع في سوريا، ولبنان، واليمن، والعراق، وليبيا، والملف النووي الإيراني، وحل القضية الفلسطينية على أساس الدولتين وعاصمتيهما القدس وفق قراري مجلس الأمن 242 و336، ذلك كله يدفع بهذا الاتجاه.
وهو ما عكسته وتعكسه مؤشرات قياس أداء العلاقات السياسية الثنائية بين المملكة وفرنسا في الفترة الأخيرة، بدءاً من تكثيف تبادل الزيارات الرسمية البينية، واللقاءات على مستوى القمة، والوزراء، وقادة الرأي ورجال الأعمال والمثقفين، مروراً بمؤشرات توقيع مذكرات التفاهم، والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والأمنية والاستثمارية والثقافية، وليس انتهاء بالمناورات والتدريبات العسكرية الثنائية، وتبادل المعلومات الاستخبارية والأمنية، وتصريحات المسؤولين في البلدين، وحجم التبادل التجاري، والاستثمارات البينية والمشروعات المشتركة، صناعية كانت أو تجارية، والبعثات الطلابية، والتعليمية، وغيرها.
إن حضور فخامة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ضيف شرف على قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربي الأخيرة المنعقدة في الرياض، مقر الأمانة العامة للمجلس، وبدء أعمال اللجنة التنسيقية السعودية الفرنسية الدائمة برئاسة سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومعالي وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في باريس قبل عدة أيَّام، وتوقيع عدد كبير من الاتفاقيات البينية، إضافة إلى اتفاقيات أخرى تحت الدراسة، لهي رسالة واضحة تؤكد متانة هذا التحالف، ورسوخ هذه الشراكة الاستراتيجية الوثيقة بين فرنسا ومنظومة دول مجلس التعاون، والمملكة على وجه الخصوص.
هذه الأطراف مجتمعة، تسعى للوصول إلى توازن قوي يحتوي حالة «الانحسار الأمريكي التدريجي»، أو «الفراغ» كما يسميها بعض المحللين، الذي بدأت تبرز ملامحه، كنتيجة للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، أو «استراتيجية أوباما وفريقه» التي أقل ما توصف بها أنها «مترددة»، و»غير واضحة»، حيث - وبحسب مراقبين - لا يستمع البيت الأبيض - حالياً - بشكل كاف لنصائح وكالة الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع العالق في سوريا، وبملف التعامل مع إيران - والنووي الإيراني إحدى تفصيلات هذا الملف وليست كل الملف - ومحاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة الشيعية والسنية، والوضع في العراق، وقضية السلام في الشرق الأوسط، ولا شك أن جميع هذه الملفات الشائكة تقع ضمن نطاق أمننا الاستراتيجي بشكل مباشر.
إن التحديات التي تواجه منطقتنا لا شك كبيرة، لكن فرصها الحالية والمستقبلية أكبر من أي تحديات فيما لو عرف الفرنسيون كيف يلتقطون هذه الفرصة التاريخية، وليفتحوا الباب للراغبين من حلفائهم الأوروبيين للانضمام للحلف السعودي الفرنسي.
إنها شراكة استراتيجية راسخة، بعيدة المدى، دائمة ومستقرة، مع دولة ذات ثقل جيوسياسي واقتصادي وأيديولوجي كبير، وليعود ذلك بالنفع على شعوب قلب العالم القديم (الشرق الأوسط وأوروبا) في إطار حضاري واعد، قوي ومتين، وغني بالقواسم المشتركة، وليمتد أثره الإيجابي على الجميع.