كوثر الأربش
العابرون بخفة بيننا، الذين لا تشعر بثقل أقدامهم. الحاضرون بأثرٍ كالفراشة.
هؤلاء سيكون رحيلهم صاخبًا، مزعجًا، ثقيلاً!
يتركون ظلالهم وراءهم مثل ذكرى لا تغسلها دموع الأمهات. الذين لم يحتاجوا منا شيئًا وتشعر أنك راغب على الدوام أن تهبهم كل شيء. جزء منك ربما! كما لو كانوا مكتملين بذواتهم فلا يسعون للاكتمال بنا، فنمضي لسد فراغنا ونقصنا بأن نلتقط بقاياهم فقط. يهبوننا كل شيء ولا يسعنا وهبهم إلا المزيد من الاحتياج لبسماتهم، لعبورهم الفريد والخاطف.
أتحدث عن موت الصغار. الذين لم يتمهلوا قليلاً على الأرض. مثل قوس المطر لاح برهة في السماء ثم تلاشي. وصرنا في اقتفائه بعد كل زخة، تعتلج فينا فكرة الألوان. نحن الرماديون الذين مكثنا حيث تتراكم فينا ظُلمة خلافاتنا، شرورنا، بشريتنا ونقصنا. لا يمكن للملونين إلا الذهاب سريعًا لحدائق الله. حيث لا شر ولا نقص ولا سواد.
الصغار الذين تحملهم على ذراعك، تغلق أزرار قمصانهم، تساعدهم في حل فرض الرياضيات، وتصغي لحكاياتهم مع الزملاء بعد الانصراف من المدرسة، وتطهو لهم الطبق الذي يفضلونه، وتطفئ شموع ميلادهم، وتأخذهم لحديقة الحيوانات ليطعموا أرنبًا أو حَملاً، تتسلق معهم جبلاً، تشاركهم مشاهدة فلم وتنتظر بفارغ حبّك أن تحتفل بتخرجهم. تفعل هذا ليس لأجلهم، بل لتكتمل أنت وتصبح أجمل.
يمضون، لأنهم الأجمل، لأن ألوانهم اكتملت، لأنهم ذواقون، ومشغولون بالارتقاء. يمضون لنبحث في تفاصيلهم ورسائلهم، أو هكذا نتخيل كل بقاياهم رسائل. ينسربون من بين أيدينا مثل ماء الوضوء، ومن أعيننا مثل بقايا النعاس اللذيذ. ونبقى نعالج صدمة أن يذهب الصغار، حرقة أن تهيل التراب على ابنك بدلاً من أن يفعل هو. نستحضرهم في ألعابهم القديمة، دفاتر مذكراتهم، وجوه أصدقائهم، الحذاء الجديد الذي لم يلبسوه بعد، بوابة المدرسة حيث يخرج الطلاب، ولا يخرجون بعد ذلك، ولن يخرجوا أبدًا. نتذكر أول كلمة نطقوها، وبالطبع هي «ماما». وآخر كلمة قالوها، وليس بالضرورة ستتذكرها، أو لن تعرفها لأنهم قتلوا بعيدًا. تمامًا كما رحل حيدر المقيلي ومحمد العيسى شهيدا الإرهاب. وضيف الله القرشي شهيد الاغتيال.
كلهم لم يكمل ربيعه العشرين، لم يزف لعروس، لم يحتفل بتخرجه من الثانوية، لم يجرب روتين العمل، لم يتأمل بطن زوجته يكبر، لم ينتظر خارج غرفة الولادة، لم يشتر الحفائظ والحليب لابنه ولم يجرب قلق التجعيدة الأولى والشعرة البيضاء الأولى أيضًا.
يقول وديع سعادة في نص بعنوان «جمال العابر»:
«العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبار قليل، سرعان ما يختفي. الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحة نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب.
قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفَّة لا تترك للمكان أن يسبيه ولا للوقت أن يذرّيه. مُذَرّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبنًا لبيدره ولا قمحًا لحقل سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول. العابر سريعًا كملاكٍ مهاجر. غير تارك إقامة قد تكون مكانًا لخطيئة. غير مقترف خطيئة، غير مقترف إقامة. سريعًا تحت شمس لا تمسُّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه أثر عليه. سريعًا بلا أثر ولا إرث ولا ميراث»
هكذا رحل صغارنا رحيلاً ضخماً، مثقلين تاريخنا بسؤالٍ مُرّ، تاريخنا الذي لوثناه بالدم. رحلوا قبل أن يغوصوا في طين البشر، قبل أن يتبقعوا بالأحقاد، قبل أن تتوحش فيهم بشريتهم، قبل أن يتشاجروا مع زملاء العمل على منصب، ويخذلوا الأصدقاء مثلاً، قبل أن تشحب ألوانهم ويصبحوا رماديين ومنطفئين.