د.عبد الرحمن الحبيب
بينما كانت مدرسته مغلقة بسبب انتشار الطاعون منتصف عام 1666م، كان الطالب ذو الخمسة وعشرين عاماً واسمه إسحق نيوتن يقوم بأبحاثه خلال ذلك الوقت «الضائع». نيوتن عرض النتائج على أستاذه إسحق بارو. البروفيسور بارو ذُهل، فتنازل عن الأستاذية وأصبح طالباً عند نيوتن!
لكن الغالبية ليست مثل هذا البروفيسور المتواضع بل على النقيض، حسبما وصل إليه عالم النفس ستيفن جارسيا في أبحاثه، وسماها حالة الحاصل على نوبل الذي يتجنب تعيين زملائه من الشباب الواعدين في مناصب قيادية، خشية أن يحل أحدهم محله في قيادة المؤسسة. هذا يبدو مبرراً على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل سيؤدي لضعف المؤسسة، لأنّ الشباب الواعد سينتقل إلى مؤسسة أخرى ويمارس مهاراته، مما يؤدي غالباً إلى تفوقها على المؤسسة السابقة. ويرى جارسيا أن ذلك قد يكون السبب الذي يمنع مجموعة بحثية متميزة من الاستمرار في تميزها على مدى سنوات طويلة.
التغييرات في قيادات الوزارات والمؤسسات الكبرى التي تمت مؤخراً في الحكومة السعودية الجديدة، تلاها تكليف نواب أو وكلاء أو مدراء عامين جدد داخل المؤسسة أو الوزارة اختارهم المسؤول الجديد في القطاع. ويُثار حالياً نقاش متنوع داخل تلك الأروقة حول هذه الاختيارات من حيث المعايير والأسس التي بنيت عليها ومدى معرفة المسؤول الجديد لكبار الموظفين الموجودين في ذلك القطاع ولهم خبرة طويلة فيه، خاصة عندما تكون أغلب التعيينات من خارج المؤسسة. طبعاً، الاختيارات لن تكون مرضية بسهولة للجميع داخل القطاع، فهناك آراء متعددة بتعدد الأفكار والتجارب والمصالح والأمزجة.
ولعل ما يوضح ذلك ما كتبه مؤخراً الأستاذ عبد الله الناصر (عضو مجلس الشورى) بأسلوب حاد عن المسؤول الجديد: «يكنس غالبية الموظفين ممن يعملون في دائرته، ليأتي ببدلاء جدد، ربما أنهم من أصدقائه، أو من خواصه، والمحسوبين عليه!» الناصر ليس ضد التغيير لكنه ضد ما سماه: التغيير الأهوج.. المزاجي.. التسلطي... ويخشى الناصر أن المسؤول الجديد قد أصدر حكمه بإبعاد كبار الموظفين السابقين من مناصبهم دون تجربة ولا دراية ولا امتحان لكفاءتهم.. ويرى أن ذلك ربما: «يوحي بأن المسؤول لا يريد أن ينكشف جهله، وعدم قدرته وتمكنه.. فيأتي بجهلاء مثله..»
أن يأتي بجهلاء مثله أو أقل يستدعي مقولة طريفة معبرة للمخترع البارع ستيف جوبز صاحب «أبل» الذي أحدث ثورة في مجال الكمبيوتر، حين درَّج الكفاءة على مستويات: أ، ب، ج، د.. الخ، قائلاً: قادة المؤسسات الذين في مستوى أ يعينون أشخاصاً في مستوى أ أو أفضل منهم، بينما من هم في مستوى ب يعينون أشخاصاً في مستوى ج، وأولئك يعينون أشخاصاً في مستوى د.. وهكذا يستمر انخفاض الكفاءة حتى ينحدر مستوى المؤسسة إلى الحضيض.
كم مسؤول متقاعد سمعناه يتحسر على اختياراته في تعيين مساعديه، حين كان يختار من يقول له دائماً وأبداً بسذاجة: «سم طال عمرك، الرأي رأيك والشور شورك».. دون أن يبدي ملاحظات أو اقتراحات ذات نفع، بينما أبعد المهرة الذين يكثرون عليه الملاحظات «وتنغيصه» بها رغم أنه لو أخذ بها في وقتها لما أُقيل!؟ فأولئك «المنغِصون» المهرة هم الأنفع على المدى البعيد للمؤسسة وللوطن وللمسؤول نفسه.
جاي كاواساكي الذين عمل مع جوبز في قيادة «أبل» وتعلم منه الكثير وألّف كتباً في الإدارة، يرى أن أصحاب الكفاءة المتواضعة يعيّنون من هم أقل مهارة منهم كي يظهروا بمظهر حسن، بينما البعض يخشون من أن اختيار مساعديهم من أصحاب مستوى أ قد يحلون محلهم. يقول كاواساكي التوصية واضحة: عيِّن أشخاصاً أفضل منك، وإلا سترى نفسك ترأس «قطيعاً» من التابعين الفاشلين (رولف دوبلي)!
الوصول إلى حالة أن تكون محاطاً بالفاشلين من اختيارك، تناوله -كما أشير - علماء النفس ووضع فيها نظرية تأثير دانينج -كروجر عام 1999م. يقصد بها التحيز الإدراكي حيث يعاني الأفراد غير المهرة من أوهام التفوق، وتقييم قدراتهم خطأً على أنها أعلى بكثير مما هي عليه. وعلى العكس، فالأفراد ذوو المهارات العالية يميلون إلى تقليل كفاءتهم، على افتراض خاطئ بأن المهام التي تبدو سهلة بالنسبة لهم هي أيضاً سهلة على الآخرين.
لقد قالها المتنبي:
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
أما هذان العالمان (ديفيد دانينج، حائز على جائزة نوبل في علم النفس، وجوستين كروجر)، فقد صاغاها منهجياً بالعبارة التالية: «إن سوء المعيار لغير الكفء ينبع من خطأ في تقدير النفس، في حين أن سوء المعيار من ذوي الكفاءة العالية ينبع من خطأ في تقدير الآخرين.»، تلك الظاهرة البشرية مرصودة منذ القدم من الحكماء، كل بطريقته فكونفوشيوس قال: «المعرفة الحقيقية هي معرفة الفرد مدى جهله». أما أبو الفلاسفة سقراط فيقول: «أنا أعلم أنني لا عرف شيئاً». ولشكسبير مقولة مباشرة: «الغبي يرى أنه حكيم بينما الحكيم يرى أنه غبي.»
لكن ينبغي الحذر من التعميم، (سواء على منهج جارسيا أو دانينج) فهناك مسؤولون أصحاب كفاءة ومهارة عالية وأذكياء يتفادون تعيين أمثالهم، ليس بسبب خشيتهم من المنافسة بل بسبب مزاجيتهم الحادة المتسلطة، حين لا يقتنع المسؤول إلا بمن يؤكد صحة قراراته دون مناقشة أو ملاحظة. من السهل على أي موظف أن يؤيد قرار رئيسه، بينما الصعوبة تكمن في المهارة النقدية المستندة على جهد بحثي ومعرفي..
أخطر من كل ما قيل، هو ذلك المسؤول الجديد على المؤسسة الذي يظن أنه مكتف ذاتياً بالمعرفة المطلوبة ويقدح من رأسه بالقرارات الكبرى دون خطة واضحة ودون مشورة، فلا يلتقي بكبار الموظفين السابقين وأصحاب الخبرة والكفاءة إلا لماماً غير عابه بتجربتهم ولا معارفهم، ولا يؤسس اختياراته على دراية بما يجري فعلاً داخل مؤسسته، لأنه لم يعاين عن كثب حال الإدارات الأساسية لمؤسسته وربما لم يزر أغلبها.. فمهما كان ذكياً وماهراً، فإنّ المشكلة ليست في أفكاره بل في طريقة تفكيره ومنهج عمله.. طريقة عوراء إن لم تكن عمياء ستصطدم بحواجز الواقع، وقد يصل به اليوم لمثل ذلك المسؤول المُقال المهمش، المتحسر على ماضيه في اختياراته المزاجية، ليقول له صاحبه: يداك أوكتا وفوك نفخ!