د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يكاد يتفق العلماء على أنَّ إعجاز القرآن في نظمه، وما تضمَّنه من وجوه البلاغة وأنواع الفصاحة، ولستُ في مقام التفصيل في هذه القضية، فقد أشبعها العلماء القدماء بحثاً، موجهين أغلب جهودهم نحو التنظير، على أنَّ الدراسات المعاصرة بدأت تتجه نحو الدراسة التطبيقية، ومحاولة استكناه الجماليات البلاغية التي تزخر بها آيات الذكر الحكيم.
وستتجه هذه المقالة إلى الوقوف عند بعض جماليات القرآن الكريم، وتلمُّس شيءٍ من لفتاته البلاغية، من خلال أسلوبٍ قلَّما تعرَّض له البلاغيون، مغفلين الغوص في أسراره، والتحليق في فضاءاته، وهو تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه، مستعيناً بما كتبه المفسرون ودوَّنه البلاغيون، الذين عُرِف عندهم باسم (تأكيد المدح بما يشبه الذم)، حيث عدَّه الخطيب القزويني فنين مختلفين، وتحدَّث عن الأول فقال: «وهو ضربان، أفضلهما أن يُستثنى من صفة ذمٍّ منفيِّةٍ عن الشيء صفة مدحٍ بتقدير دخولها فيه... والثاني: أن يُثبَت لشيءٍ صفة مدح، ويعقب بأداة استثناءٍ تليها صفة مدحٍ أخرى له»، وسمَّى الفنَّ الثاني (تأكيد الذم بما يشبه المدح) وقال عنه عكس ذلك.
وقد تعدَّدت تسميات هذا الأسلوب عند العلماء، فمنهم مَن سمَّاه (الاستثناء)، ومنهم مَن سمَّاه (تأكيد المدح بما يوهم الذم)، ومنهم مَن أطلق عليه اسم (ذكر المدح في معرض الذم)، ومنهم مَن لقَّبه بـ(التوجيه)، ومع ذلك فقد ظلَّ مصطلح (تأكيد المدح بما يشبه الذم) الأكثر شهرةً عند جمهور البلاغيين.
وإذا كان عنوان هذا اللون يوحي بقصره على معنى المدح أو الذمِّ إلا أنَّ التحقيق يُبيِّن عدم اقتصارهما على ذلك، فيأتيان في المعاني كافَّة، وقد نبَّه التفتازاني على هذا الأمر الدقيق، فذكر أنَّ هذه التسمية جاريةٌ على الأعمِّ الأغلب، وإلا فقد يكون ذلك في غير المدح والذم، وبناءً على هذا اختار أن يُسمَّى (تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه)، وهي تسميةٌ جديرةٌ بالقبول؛ لأنها تجمع اللونين تحت عنوانٍ واحد، تنضوي تحته معاني المدح والذمِّ وغيرهما.
وعند التأمُّل في هذا الأسلوب وشواهده يُلحظ أنَّ أهمَّ ما تمتاز به الطبيعة الفنية له هو مخالفة القاعدة في التعبير وكسر المألوف، أو الانحراف في استخدام بعض أدوات اللغة، وترتكز المخالفة على توظيف الاستثناء الذي تتمحور دلالته في مخالفة حكم ما بعد الأداة لحكم ما قبلها، وهنا يعدل المبدع عن ذلك المألوف، فيأتي بصفة مدحٍ مُثبتةٍ أو صفة ذمٍّ منفية، ويعقبها بأداة الاستثناء ليعوِّل عليها في إيهام المتلقِّي بأنَّ حكماً يخالف ما قبلها سيعقبها، وفي اللحظة التي ينتظر فيها المتلقِّي هذا الحكم المخالف يُفاجئه المبدع بما يؤكِّد مضمون ما قبل أداة الاستثناء، وهكذا تخضع حركة الإيهام والمفاجأة وزمنها في هذا الفنِّ للعديد من الأسباب المتعلِّقة بالنصِّ ومُبدعه، ومن خلال التفاعل بين الإيهام والمفاجأة والانحراف بوظيفة الاستثناء يتولَّد هذا الأسلوب الخلاب.
ويتضمن هذا الأسلوب نوعاً من الخداع والخلابة، ولوناً من المفاجأة والمباغتة، حيث تأتي النتيجة فيه غير متوقَّعة، وعلى خلاف ما تُفيده المقدِّمات، وهذا يُثير الفكر، ويُوقظ العقل، ويُشوِّق النفس، ويدفع إلى التأمُّل والتدبُّر، والاندماج في خبايا الأسلوب لكشف الحقيقة، كما أنه يساعد على ربط الكلام، ويعمل على تقوية أواصر العلاقة بين مفرداته من خلال الاستثناء الذي يجعل ما قبله شديد الصلة بما بعده؛ إذ بهما تكتمل الفائدة، ويتحدَّد المراد.
وسوف أتناول في هذه الأسطر نماذج من صور هذا الأسلوب القرآني، مُبيِّناً بعض سماته البلاغية من خلال إبراز أسراره الجمالية، وآثاره الدلالية في الآية الوارد فيها، وصلته بالجوِّ العامِّ للسورة الكريمة، حتى يمكن لقارئ القرآن أن يتصور جمال هذا الأسلوب، ويشعر بجمالياته في النظم القرآني.
فمن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} (25) سورة النبأ (24 -25)، حيث جاءت هذه الآيات في سياق مرعبٍ مخيفٍ يتحدَّث عن بعض صور العذاب والحرمان التي يواجهها أهل النار يوم القيامة جزاءً لهم على كفرهم بالله وتكذيبهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وطغيانهم في الدنيا وتكبُّرهم على الإسلام والمسلمين. ويتَّضح تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه هنا في نفي القرآن الكريم أولاً ذوقهم البرد والشراب في جهنم؛ تعذيباً لهم، وتأييساً من إراحتهم أو التخفيف عليهم، ثم الاستثناء من ذلك الحميم والغسَّاق.
وحقيقة الذوق إدراك طعم الطعام والشراب، ويُطلق على الإحساس بغير ذلك إطلاقاً مجازياً، ولعلَّه هنا اُستعمل في المعنيين حيث نصب برداً وشراباً، والضمير في (فيها) راجعٌ إلى جهنم، وقيل بل راجعٌ إلى الأحقاب بمعنى: لا يذوقون في تلك الأحقاب.
وقد اُختلف في معنى البرد، والراجح أنه عامٌّ في كلِّ ما من شأنه أن يُخفِّف عنه م ما هم فيه من شدَّةٍ وحر، فيشمل برد الريح وبرد النوم وبرد الظل، أما الشراب فهو كلُّ ما ينفعهم من العطش من ماءٍ وغيره، والمعنى: لا يذوقون فيها شيئاً ما من بردٍ وروحٍ يُنفِّس عنهم حرَّ النار، ولا من شرابٍ يُسكن عطشهم، والحميم هو الماء الشديد الحرارة، أما الغسَّاق فقد اختلف فيه المفسرون، وأياً ما كان فهو صورةٌ من صور العذاب التي يُلاقيها أهل النار.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب البديعي من تأكيدٍ وتقريرٍ للعذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء الطاغين، فبعد أن أخبر القرآن الكريم عن مآلهم يوم القيامة ذكر هنا أنهم محرومون من أيِّ شيءٍ يُخفِّف عنهم هذا العذاب من بردٍ يُهوِّن عليهم بعض ما هم فيه أو شرابٍ يُطفئ شيئاً من ظمئهم، وهذان الأمران من أقلِّ الأمور التي يتمنَّاها الكافر حينئذ، ثم نرى القرآن الكريم يستثني من ذلك الحميم والغسَّاق، فإذا المستثنى أدهى وأمر، وأشدُّ في العذاب وأكبر في المصيبة، وفي هذا الأسلوب تأكيدٌ على وقوع عذابهم وإذاقتهم من هذه الأصناف التي تصوِّر أقصى غايات الألم والعقاب.
كما أنَّ في هذا الأسلوب سخريةً بهؤلاء المجرمين واستهزاءً بهم، وتلاعباً بنفسياتهم وتحطيماً لها، وهذا من أقسى أنواع العذاب، فحين ينفي القرآن الكريم إذاقتهم أدنى شيءٍ يُخفِّف عنهم حرَّ جهنم وظمأها، يدبُّ اليأس في قلوب هؤلاء المعذبين، ويستيقنون أنهم لن يجدوا وسط هذا العذاب ما يُروِّح عنهم، ويخيب أملهم في أن يمنَّ الله عز وجل عليهم بشرابٍ يرويهم أو يُطفئ عنهم شيئاً من عطشهم وهم يُلاقون ما يُلاقون من أصناف الأهوال وأنواع التنكيل، وبينما هم على هذا الشعور اليائس، وبعد أن يستيقن القرآن الكريم من ثبوت ذلك في أذهانهم وتمكينه في نفوسهم، إذا هو يفاجئهم - ويفاجئ المتلقِّي كذلك - بالاستثناء، وهو بذلك يُوقظ مشاعرهم، وينتشلهم ولو قليلاً مما هم فيه من اليأس والقنوط، ويُعيد إليهم بصيص أملٍ في التخفيف عنهم من هذا العذاب الذي هم فيه، وإذاقتهم شيئاً يُهوِّن عليهم ما يُلاقونه، حتى إذا كانوا على هذه الحال من الترقُّب والتمني يأتي المستثنى، فإذا هو أدهى وأمر، وهو الحميم الذي يُقطِّع الأمعاء، والغسَّاق المؤلم في طعمه ورائحته، فتتهاوى أمانيهم، ويدبَّ الجزع واليأس من جديد في قلوبهم ليستمروا على هذه الحال أحقاباً وأحقاباً.
ويتناسق هذا الأسلوب مع سياق الآيات التي جاء فيها وجوِّ المشهد العنيف الذي يصف عذاب الطاغين بدءاً من قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} (21) سورة النبأ، فالسياق سياق عذابٍ وانتقام، والتصوير تصويرٌ رهيبٌ ومخيف، والجوُّ جوُّ شقاءٍ وعناء، ويأسٍ وندم، وهذه الآيات جاءت لتكمل صورةً من صور العذاب النفسيِّ والجسديِّ الذي سيُحيط بالمشركين الذين كذَّبوا المصطفى صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولم يؤمنوا بدعوته، وتكبَّروا عنها وطغوا وبغوا واستكبروا، كما أنَّ هذا الأسلوب ينسجم مع الجوِّ العامِّ للسورة الكريمة التي بدأ التهديد والوعيد فيها منذ مطلعها، وجاءت أغلب المشاهد فيها تصوِّر عذاب هؤلاء المجرمين وتبيِّن ندمهم وحسرتهم، وتتعجَّب من عدم إيمانهم وهم يرون آثار قدرته وعظيم نعمه سبحانه وتعالى.