من القضايا المسلّمة عند النقاد أنَّ النصَّ الشعري (يكسر) بطريقته الخاصة (قوانين) الخطاب، وبناءً على هذا يرى (فاليري) أنَّ الشعر (لغةٌ داخل لغة)، حيث إنَّ تأمُّل اللغة، وإعادة خلقها مع كل خطوة، هو ما يحقق (الشعرية) في الخطاب.
وإذا كان من أبرز شروط (الإبداع) في التراث الشعري احترام (التقاليد) التي أقرتها (العهود الثقافية)، فإنَّ هذا لم يمنع من (عدول) هذا التراث عن (بنية) الخطاب (النموذجية)؛ ولهذا يؤكد (ريكور) أنَّ اللغة الشعرية (غير مقيدة)، أو هي (متحررة) من قيود بعينها تتصل بالمفردات والتركيب والأسلوب.
وفي الوقت الذي كان يُعدُّ فيه هذا العدول (تمرداً) في العهد القديم، حيث كان يسير في اتجاهٍ (مغايرٍ) للذائقة الأدبية، فقد أضحى في الشعر (المعاصر) (أساساً) في (الإبداع)، وملمحاً مهماً من ملامح (التميز)، حيث صار يُنظر إلى هذا العدول على أنه نوعٌ من (التوتر) و(الإرباك) و(مخالفة التوقعات)، مما يؤدي حتماً إلى خلق نوعٍ من (المفاجأة) المحببة لدى المتلقي، وإحداث (دهشةٍ) لذيذةٍ تجعله يتابع بشغف، ويتأمل بشوق، ويتفاعل بفاعلية.
وقد طال هذا (التمرد) (بنية) النص التراثي في جوانب كثيرة منها، لعل أهمها ما يتصل بالبنية (الشكلية) للقصيدة القديمة، وتحديداً ما يتعلق بـ(افتتاحيتها) أو (مطلعها)، أو ما يُسمى في عُرف الدارسين (المقدمات الطلية)، وهي قضيةٌ نالت نصيباً كبيراً من عناية الشاعر القديم، وشغلت فكره واهتمامه، حيث كان حريصاً على الالتزام بها، وعدم الخروج عليها، فنظر إليها بوصفها (طقساً مُقدَّساً) لا بُدَّ أن (يفتتح) به (المبدع) (خطابه) قبل أن يخوض في أي موضوع يريده.
والمتأمل في (أنماط) هذا (الخروج) يرى أنَّ أغلبه كان (ضمنياً)، حيث كانت تظهر ملامح (التمرد) على (بنية) الخطاب نفسها، وهو النوع الذي كان يكثر في شعر أبي الطيب المتنبي، خصوصاً في نصوصه (المدائحية)، فالمتأمل في أخباره يلحظ كثيراً من الوقائع التي تؤكد أنه كان مهتماً بـ(تجنُّب) الأبنية (المعهودة) التي (يتوقعها) أهل (الثقافة) من الناس، مع أنَّ نصوصه الشعرية (متواصلةٌ) مع (البناء الشعري التراثي)، وكأنه يؤكِّد من خلال ذلك أنه لا تعارض بين أن يكون الشاعر متصلاً (وجدانياً) و(عقلياً) مع تراثه، في وقتٍ تتميز فيه (تجربته) وتبرز (أصالته).
ولهذا فلم يجد النقاد عناءً من ملاحظة حرص المتنبي على (الابتعاد) عن الصيغ (المعهودة) والتراكيب (المألوفة)، وتفضيل (الغريب) و(الوحشي) و(المستهجن) بقصد (إثارة الدهشة)، و(خلق الارتباك)، و(استفزاز الفضول)، كما لاحظوا أيضاً أنَّ معظم (المطالع) التي (برع) فيها كانت تلك التي يتحدَّث فيها عن (ذاته)، مصوِّراً (أحلامه) و(أمانيه)، وراسماً (همومه) و(آلامه)، أو تلك التي (يهجم) فيها على موضوعه (مباشرة)، كما في قصيدته في مدح (كافور)، التي سيكون مطلعها (أنموذجاً) لموضوع هذه المقالة، حيث يقول:
كفى بِكَ داءً أنْ ترى الموتَ شَافِيا
وحسبُ المنايا أنْ يَكُنَّ أمانيا
تمنَّيتَها لمَّا تمنَّيتَ أنْ ترى
صديقاً فأعيا أو عدواً مُداجيا
إنَّ المتأمل في الشطر الأول من البيت الأول سيلحظ أنَّ ما حمله من (دلالات) كان (مفاجئاً) بدرجةٍ كبيرة، خصوصاً إذا استحضرنا (الغرض) الذي قيل فيه هذا النص، وهو (المديح)، وهو ما جعل المتلقي (يُصدَم) و(يُدهَش) من (خروج) هذا الخطاب على (البنية التراثية) الخاصة بـ(مقدِّمات) القصيدة العربية، حيث أدَّى هذا (العدول) غير المتوقع إلى خلق (مفاجأة) منذ الوهلة الأولى للنص الشعري، بسبب ما يتضمَّنه من (ثورةٍ) كبرى على (التقاليد) المعهودة و(السنن) المتبعة في مُقدِّمات غرض (المديح) في النصوص القديمة.
غير أنَّ هذا (الخروج) قد لا يربك المتلقي الذي خَبَر أبا الطيب، وعرف (أساليبه)، وألِف (خروجه) المتكرر على (أعراف) قصيدة المدح القديمة، و(تحطيمه) لقيودها التي (كُبِّلت) بها مطالعها، إلا أنَّ هذا لم يلغِ عنصر (المفاجأة) و(الدهشة)، حيث أدَّى ذلك (الولوج) المباشر في التعبير عن (الذات) بهذه المقدمة (الوجدانية) الحزينة إلى (كسر) جميع (التوقعات)، و(خرق) كافَّة (أدبيات) المقام (المدحي) الذي قيل فيه هذا النص.
لقد (صُدِم) المتلقي أكبر صدمةٍ حين أدرك أنَّ الشاعر يفتتح نصَّه بتمني (الموت)! و(تفاجأ) بكلِّ (دهشةٍ) و(انبهار) وهو يرى هذه (الأماني) الغريبة (تتصدَّر) قصيدةً (مدائحية)، والأكثر (دهشةً) أنَّ أبا الطيب (يتمنَّى) (الموت) بحثاً عن (الشفاء)، وبدهيٌّ أنَّ الحديث عن (الموت) في مثل هذه (المقامات) يبعث على (التشاؤم)؛ لأنه لا يُراد به ذلك الموت الذي يُطلب (انسحاباً) من (الحياة) في سبيل (العلا) وتحقيق (المجد) وبلوغ (المعالي)؛ ولهذا عدَّ النقَّاد القدامى هذا المطلع (إخلالاً) بالبلاغة، وأنَّ فيه (إساءة) أدب مع المخاطب (الممدوح)، خصّوصاً أنه ذو منصبٍ (رفيع)، لا يجوز أن (يُواجَه) بمثل هذا، فكيف و(النصُّ) في مقام (المديح)!
- الرياض
Omar1401@gmail.com