وتستمرُّ (مفاجآت) هذا المطلع (المتمرد)، وتتوالى (الصدمات) غير المتوقَّعة لهذه الافتتاحية (المربكة)، فحين يقترب (المتلقي) من (دلالات) البيتين ويعي (تفاصيلهما) يدرك أنَّ الشاعر يتمنى (الموت)، ويطلب (الفناء)؛ لأنه لم يتمكن من إيجاد (الصديق) في رحلته الطويلة إلى الممدوح، وكيف يفعل ذلك وهو يُقبل على (كافور) الذي كان يُفترض أن يكون هو الصديق المنشود، ويُتوقَّع أنه سيعوِّض بـ(حضوره) هذا (الغياب)، ومع هذا يتمنى (أبو الطيب) هذه الأمنية! إنه أمرٌ يثير (الاستغراب)، و(يستفز) العقول.
(تتزاحم) التساؤلات حول (دلالات) هذا المطلع (المفاجئ): ما (الأسباب) الكامنة وراء (خلق) هذه البداية (الذاتية) التي (فاجأ) الشاعر بها (الممدوح) و(المتلقي)؟ وكيف يصوغ (أبو الطيب) مثل هذه الأبيات (الافتتاحية) لقصيدة غرضها الرئيس (المديح) والثناء والإعجاب؟ وكيف يخاطب بمثل هذه المعاني (ملكاً) للتوِّ أقبل عليه، (آملاً) منه ما لم يتمكَّن من الحصول عليه عند مَن قبله؟ ثم أيُّ جرأةٍ عنده في تمني (الموت) وهو (الخبير) ذو التجربة الطويلة في خطاب (الملوك) والأمراء وأصحاب المناصب الرفيعة؟ وهل كان (يجهل) أو (يتجاهل) أقل (المعايير) التي ينبغي مراعاتها في مثل هذا النوع من (الخطاب)؟ ولماذا تمنَّى (الموت) أصلاً؟ وهل كان السبب (مقنعاً)؟ وكيف يكون (الموت) (أمنية)؟ وهل يمكن أن يكون (الفناء) (حلاً) للمشكلة التي يعاني منها أياً كانت؟ إنها أسئلةٌ (ضخمة) يثيرها هذا (المطلع)، تجعل (المتلقي) في غاية (الدهشة)، وأعلى قمم (الانبهار).
إنَّ مثل هذه (الانحرافات) (الدلالية) و(السياقية) التي يعمد إليها (المبدع)، (مفاجئاً) من خلالها (المتلقي)، بما تحمله من (بنيةٍ) (ذاتيةٍ) (مُتمرِّدةٍ) على (التقاليد) السائدة التي تعارف عليها الشعراء، تسهم في إيجاد مستويات (رفيعة) من (الجمالية) و(الفنية)، تؤدِّي إلى (خلق) (مسافةٍ) شاسعة من (التوتُّر)، تجعل (الفجوة) بين (النص) و(المتلقي) في (اتساعٍ) أكبر، الأمر الذي من شأنه أن (يستثيره) و(يستفزَّ) (وعيه)؛ بما يتميز به (النصُّ) من (انفتاحٍ) و(إغراءٍ) بـ(الاندماج) في (وعي) (دلالاته)؛ رغبةً في (ملء) (الفجوة) الحادثة بينهما.
إنه من البدهي أن يقال: إنَّ على (المبدع) السعي إلى اختيار (أعذب) المداخل لنصه (الإبداعي)، وأكثرها (دفئاً) شخصياً، وأن يحاول إيثار (المطالع) التي (تشدُّ) الانتباه، و(تسيطر) على الإدراك، هذا.. إذا أراد حقاً أن (يؤثِّر) في (المتلقي)، ورغب جِدِّياً في أن (يتابع) خطابه (الإبداعي) بـ(شوقٍ) و(انبهار)، حتى يضحي هذا (المتلقي) (طرفاً) في (الخطاب الشعري)، (يتفاعل) معه، و(يعيش) فيه، و(يشعر) بكلِّ حرفٍ من حروفه؛ ولهذا يؤكِّد (ياوس) أنَّ (المبدع) قد (يَصدِم) (التوقُّعات) الطاغية في (عصره) على نحوٍ (مباشر)؛ (لاستثارة) (استجابة) المتلقي، و(مشاركته) في (إنتاج) الدلالة، وهو ما يعني (إبقاء) جذوة (الانتباه) و(الترقُّب) (مُتَّقِدَةً) حتى النهاية، و(الاطمئنان) إلى أنَّ (التجربة الشعرية) قد بلغت (أقصى) درجات (التوتُّر)، حين تمكَّنتْ من (كسر) (التوقُّعات)، و(التمرُّد) على (المألوف) و(المعهود).
لقد كانت كلُّ (التوقُّعات) تتجه إلى أنَّ (السياق) الذي يُذكر فيه (الموت) متصلٌ بوصف ما يلاقيه (الشاعر) من (أهوالٍ) و(صعوبات) في رحلته (الشاقَّة) إلى الممدوح، حيث كان ذكر (الهلاك) وأسباب التعرُّض إليه من (العهود الثقافية) المتعارف عليها في مثل هذه (المقامات)، أمَّا أن يصبح (الموت) من أكبر (أماني) الشاعر وهو يسير إلى (ممدوحه)، فهذا أمرٌ في غاية (العجب)، وهو ما يُشكِّل (صدمةً) كبرى (للمتلقي) الذي (خاب) (انتظاره)، و(تخلخل) مسار (وعيه)؛ لأنَّ عدم (التناسب) مع (مقتضى الحال) كان (طاغياً) (فاضحا)؛ مما يمثِّل (إغراءً) لا يشبهه إغراء في البحث عن الأسباب (الدلالية) والأبعاد (الجمالية) التي يتضمَّنها هذا (الافتتاح) (الاستثنائي)، والرغبة (الملحة) في (استبطان) المعاني (العميقة) التي (تتجسَّد) من خلالها (الرؤية)، و(يتعدَّل) بها (أفق التوقُّع)، وتتضح معها (آفاق) (الدلالة).
وحين يلج (المتأمل) داخل (التفاصيل) الدقيقة لـ(بنية) هذا المطلع (المتمرِّد) يلحظ كيف تفصح عبارة (كفى بك داءً) عن موقفٍ (شعوريٍّ) (حادٍّ) في لحظةٍ من لحظات (الضعف الإنساني) و(البوح النفسي)، وهي حالة (ازدواجٍ) في (الكيان النفسي) كما يقول النقاد، (ينعكس) معها (انشطار) (الوعي الشخصي) بفضل (ضغوطٍ) (خارجية) أو (تناقضاتٍ) (داخلية)، حيث ينتزع الشاعر في هذا (الخطاب) من ذاته (ذاتاً) أخرى، (يتخيَّلها) أمامه، و(يبثُّها) (همومه) و(أحاسيسه)، بـ(انفعالٍ) صادرٍ عن نفسٍ (مأزومة)، (تصادمتْ) (أمانيها الطموحة) مع (الواقع المرير)، مما أدَّى إلى (اضطراره) لأن يمتطي صهوة جواده منطلقاً إلى (الممدوح)؛ لعله يجد لديه ما (يُخفِّف) من (حِدَّة) هذا (التصادم)؛ ولهذا جاء التركيب (مُجسِّداً) ما نتج عن هذه (التناقضات) و(الرغبات) من (انفجارٍ) و(تمزُّق).
إنَّ هذا (الصِدام) الشديد الذي أحدثته هذه (التناقضات) جعلت (الشاعر) يُعبِّر بهذه (الدلالات) غير المتوقعة، فخرج (أسلوبه) عن (المألوف)، و(تمرَّد) على (المعهود)، و(تجاوز) (اللائق)، فأفصح من خلالها عمَّا (تتوقَّد) فيه نفسه من (حزنٍ) و(أوجاع)، و(رؤىً) و(أفكار)، مازجاً (نفثاته) الحرَّى بـ(حكمةٍ) عميقة، لعلَّها (تروِّح) عن (ذاته) (المعذَّبة)، ثم تأمَّل أول لفظةٍ في هذا النص: (كفى)، وتفكَّر في كمية (الشعور) العميق بـ(الخيبة) و(الانهزام)، وحجم (الإحساس) الكبير بـ(الإخفاق)، وكيف أنَّ هذه المشاعر (السلبية) ملأتْ (أعماق ذاته) إلى حدِّ (الاستفزاز)، حيث أصبح (الموتُ) (أمنيةً) تُتمنَّى، وحسبُ (المنايا) أن يكنَّ (أمانيا) حين (يئستْ) من وجود (الصديق)، بل (أعياها) حتى (العدو المداجي) كما أفصح عنه في البيت الثاني.
- الرياض
Omar1401@gmail.com