تخرج (الدال) من طرف اللسان العريض مع ما يلي لثة الثنايا العليا، وهي حرف مستفل منفتح يستحق الترقيق، يوصف بالشدة والجهر والقلقلة، حين تنطقه العرب فإنها تحبس النفس.
قديماً.. كان هذا الحرف الأبجدي محاطاً بالهيبة والوقار، مُضمَّخاً بالعلم الغزير والمعرفة العميقة بالتخصص، متميزاً عن بقية إخوته في كل شيء، كان يُنظر إلى صاحب (الدال) نظرة التقدير والاحترام، نظرةً تدرك أنَّ هذا الصاحب ذو شأنٍ كبير، حيث الثقافة الواسعة والوعي المحيط بتفاصيل التخصص، عندما تسبق (الاسم) تدرك موقناً أنَّ ما بعدها (مُسمَّى) يستحق الإجلال، وتعلم جازماً أنه مرجعيةٌ من المراجع التي تشعُّ بالفائدة والمعرفة وسعة الاطلاع.
كانت (الدال) معزَّزةً مكرَّمة، غاليةً نفيسة، لا يمكن أن تُمنح إلا لمن يستحقها، ومَن يستحقها كان يجب عليه أن يعمل بجدٍّ ومثابرة، وبكلِّ ما أُوتي من جهدٍ ووقتٍ كي يُسمح له أن يتشرَّف بها، ويفخر بصحبتها، ويزهو باتصالها باسمه وتزيينها لحروفه، كانت (الدال) صرحاً من العلم، وجبلاً من المعرفة، ورمزاً من رموز الهيبة والجلال والوقار.
قبل سنوات قليلة كان صاحب (الدال) مُقدَّماً في كلِّ شيء، يحظى بمكانةٍ عاليةٍ في المجتمع، لا تنقصه ثقتهم، ولا يفتقد احترامهم وتقديرهم، كان هو الآخر متواضعاً يحترم نفسه قبل الآخرين، ويُقدِّر رفيقته (الدال)، ويعرف قيمتها بوعيٍ تام، لأنه يدرك يقيناً أنها لم تكن لترضى بتقدُّم اسمه إلا لأنها وجدته مناسباً لها، ومستحقاً لوصلها.
أما اليوم، فقد تغيرتِ الأوضاع وتبدلتِ الأحوال، حيث جار الزمان على (الدال) التي أضحتْ بائسة، وظلمها القومُ ظلماً كبيراً، فلم يعرفوا حقَّها، ولم يقدِّروا قيمتها، ونسوا كيف كانت الجهود التي كان يبذلها مَن يطمع بوصلها، وتناسوا الصعوبات التي كان يواجهها مَن كان يشتاق إلى لقائها، ويفني الأوقات والأموال حتى يتشرَّف بتقديمها على حروف اسمه المشتاقة إليها.
اليوم.. وما أشدَّ مرارةَ اليوم.. أصبحت (الدال) توزَّع على المستحق وغير المستحق، وأضحت تُهدى إلى كلِّ مَن قدَّم أوراقاً مُغلَّفةً مجلَّدة، محشوةً بأيِّ كلام، حتى لو كان مجموعةً من (سخافات) و(سفاسف) عبَّأ بها صاحبها ما بين دفتي رسالته (الثمينة)، بل قد (يوكِّل) مَن يُنجزها له، ويحضر إلى العرس - المناقشة ليظلَّ فاغراً فاه أمام صوب الانتقادات لما قدَّمه من (هرطقات)، انتقادٌ واحدٌ منها كافٍ لنسفها، ويظلُّ هو مبتسماً ينتظر بفارغ الصبر أن تزفَّ إليه (الدال) كما زُفَّت لزملائه (العباقرة) قبله، لتبقى صاحبتنا البائسة برفقتهم أبد الدهر، موصولةً بأسمائهم حتى الممات، يفخرون بها ويفاخرون بصحبتها، وهي خجلى كئيبة، قد حكمتْ عليها الأقدار أن تظلَّ مقيدةً بـ(أشباه) متعلمين، ربما لا يستحقُّ بعضهم شهادة (كفاءة)، فضلاً عن أن تسبق هذه المسكينة حروف اسمه.
لقد ظلموكِ أيتها (الدال)، وجعلوكِ (بائدة) بعد أن كنتِ (قائدة)، واتخذوكِ مطيَّةً لتحقيق مآربهم، والوصول إلى مناصب لا يستحقونها، فصاروا قياداتٍ على حسابك، أرغموكِ على (التوسُّط) لهم لتمرير معاملاتهم، وتخليص أعمالهم، ارتكبوا باسمكِ (الحماقات)، وفعلوا نيابةً عنك (الشناعات)، وأقاموا بواسطتكِ الدورات التدريبية، ودُعُوا بأمركِ إلى المؤتمرات والندوات والملتقيات، واستُكتبوا لأجلكِ في الصحف والمجلات، واتخذوا منكِ سُلَّماً سهلاً للوصول إلى أماكن لم يكونوا يحلمون قبل الاستيلاء عليكِ بالوصول إليها، وخدعوا من خلالكِ العامَّة والسُّذَّج، الذين لا يزالون يظنون أنك على عهدكِ القديم، ويحسبون أنَّ أيامكِ التي ولَّت ظلَّت.
تآمروا عليكِ، فأفقدوكِ قيمتكِ، وجرَّدوك من هيبتكِ، بل (فقأوا) عينيكِ الجميلتين، فأضحيتِ لا تفرِّقين بين عالِمٍ وجاهل، ولا تميزين بين عاقلٍ وأحمق، ساويتِ بين الجميع، وقدَّمتِ كلَّ واحدٍ منهم على أنه (الفاهم الأكبر) و(المثقَّف الأوحد)، فصدَّق نفسه، وصدَّقه الآخرون، فشرع يعيث في (العلم) فساداً باسمكِ، ويتولَّى تدريس الأجيال بأمركِ، حتى أضحتْ سمعتكِ عند المقرَّبين في غاية السوء، فصاروا ينظرون إليكِ بكلِّ ريبة، ويتعاملون مع صاحبك دون ثقة.
لكِ الله أيتها الدال، وأعانكِ على بلواكِ، وسخَّر لكِ مَن يُعيد لكِ شيئاً من هيبتكِ المفقودة، ويقدِّر قيمتكِ المنهوبة، ولا يزفُّكِ إلا لمن هو جادٌّ في خطبتك، قادرٌ على أن يدفع مهركِ، ومستعدٌ لأن يتحمَّل المسؤولية تجاهكِ، ويخلِّص مجتمعنا المعرفي من (أشباه) الأكاديميين الذين لا يعرفون في التخصص - فضلاً عن العلم والثقافة - شيئاً سوى أن يضعوكِ أمام حروفهم الجاهلة!
- الرياض
omar1401@gmail.com