نواصل مع ترجمتنا لدراسة بروفيسورة مليكة زيغال ويرد فيها اليوم مفهوم «الترقيع الفكري» Bricolage الذي يعد فكرة مركزية في هذه الدراسة:
ويتسم المجال الثقافي للطبقة الإسلاموية المثقفة الشابة الجديدة (العلماء الشباب) بالتجانس، ويتكوّن من معرفة متكاملة نوعا ما للشريعة اكتسبت على مدى فترة طويلة من الزمن من الدارسة تحت علماء متخصصين في الشريعة الإسلامية. بينما تتكون البيئة المعرفية للإسلامويين العنيفين من «خلطة متنوعة».
لقد تعلموا، في الغالب، في مؤسسات المعرفة الحديثة ويخلطون معرفتهم الحديثة بالعلوم الدينية التي اكتسبوها بأنفسهم دون انتماء إلى أية مؤسسة إسلامية رسمية. أكثر من ذلك، وكما قال أوليفييه روا، كانت مراجع المثقفين الإسلامويين الجدد «متباينة ومجزأة وغير مكتملة مطلقا» (28). وهذا الاختلاف بين علماء الدين الإسلامويين العنيفين يعرض أمامنا فضاءين معرفيين متناقضين. ومن ثَمَّ، يستخدم روا مفهوم «الترقيع»(*) Bricolage لوصف المنتجات الفكرية المفتوحة والمجزأة للإسلامويين العنيفين، بعكس منتجات العلماء المغلقة والقائمة على الذاكرة. «الترقيع» هو نوع من الإنتاج الفكري، حيث تتكون المادة الأصلية المستخدمة لتركيب هذا المنتج الثقافي من أجزاء متنافرة أي غير متجانسة. وبناء عليه، فالترقيع يعني تجميع أنواع مختلفة من المعرفة؛ لأن فاعلها فهلوي (متعدد المواهب) يعرف شيئا عن جميع المهن، ولا يتقن أيا منها. هذا الاختلاف بين عالمين معرفيين مختلفين يعمل باعتباره امتدادا منطقيا للفرق بين نوعين اجتماعيين نموذجيين:
(أ) عالم دين مرتبط بمؤسسة ولا يشكك في النظام السياسي، وغالبا قادم من الريف؛ و
(ب) مثقف إسلاموي شاب تحضّر (سكن المدينة) في الآونة الأخيرة، وتلقى تعليمه في الجامعات الحديثة.
وعكست بيئة السبعينيات، في الواقع، هذا الانقسام الثنائي؛ فحتى لو حاول العلماء استعادة دورهم المتمثل في تقديم النصح للدولة سيجدون صعوبة بسبب القيود التي فرضها النظام عليهم. لقد كان من الواضح جدا أن الأزهر بعيدٌ عن منهج الجماعات الإسلاموية العنيفة الذين تعلّموا في المؤسسات الحديثة، وسعوا إلى إسقاط النظام لأنهم يعدّونه «غير إسلامي».
لكن تحديث المعرفة في الأزهر كان، بالفعل، يطمس (يشوّش) الحدود بين «الإسلامويين» و«العلماء» ؛ وهي الحدود التي وضعها الرأي العام وعلماء الاجتماع. كما أعطى إدخالُ المعرفة الحديثة علماءَ الأزهر الشباب الفرصةَ لدخول عالم «الترقيع» ، عبر خلط المعرفة الدينية بالحديثة. وأدى تبديل الخلفية التعليمية لعلماء الدين الشباب إلى تحوّلهم إلى «مفكرين» يملكون المراجع والمفردات نفسها كزملائهم المثقفين الإسلامويين المتطرفين الذين تلّقوا تعليمهم في الجامعات الحديثة. وتسببت هذه الظاهرة في بزوغ الميول الإسلاموية بين علماء الأزهر، والتي أصبحت واضحة اجتماعيا وسياسيا في الثمانينيات.
السبعينيات:
بروز العلماء في الحلبة السياسية
التغييرات التي أُدخلت في النظام التعليمي ليست هي السبب الوحيد للتحول السياسي في الأزهر؛ فحتى تخفيف أنور السادات القيود السياسية التي فرضها ناصر على الأزهر كان له دور هام في هذا التحول. لقد استخدم نظاما ناصر والسادات الدين لتحقيق أهدافا سياسية، بما في ذلك تعزيز شرعيتهما السياسية؛ ولكنهما لم يستخدما الدين بالطريقة نفسها. لقد هيمن ناصر، بقوة، على المؤسسة الدينية ووطّد سيطرة الدولة رسميا على الأزهر. وبناء عليه، كان يمكنه استخدام الإسلام - كما فسّره علماء الأزهر - لإضفاء الشرعية على خيارات النظام الاشتراكية. وبعدما سحق ناصر الإخوان المسلمين وسجنهم بمباركة رسمية من الأزهر، وبعدما فرض قسرا وبحزم سيطرته على الأزهر في عام 1961 كان يمكنه أن يعتمد اعتمادا كبيرا على أيديولوجية الاشتراكية العربية، دون خوف من أي تدخل للعلماء.
ولكن ينبغي أن تُفهم علاقة السادات مع الأزهر في سياق سياسي مختلف. لقد جعل السادات نفسه مدينا للشرعية الدينية أكثر من ناصر بشكل «هائل وخطير»: لقد ابتعد عن الاشتراكية العربية، وحرّر الساحة السياسية من أجل التخلص من الجناح اليساري الناصري. ونتيجة لهاته الخطوة، قدّم للعلماء مساحة أكثر انفتاحا نسبيا للتعبير والتجريب؛ وهو ما أدى إلى تحركهم وخروجهم من الإطار الجامد لمؤسسات الدولة. ولكون العلماء يتمتّعون بالفعل بموقف احتكاري للدين قدّمه ناصر لهم، استفاد العلماء من فرصة التحرر السياسي الذي دشّنه السادات، وخاصة من خلال تأسيس الجمعيات الإسلامية أو المشاركة في نشاطاتها. وفي وقت مبكر قد يعود إلى عام 1967، حاول العلماء إعطاء الدين المزيد من الأهمية في الحياة العامة؛ ولكنهم لم يكونوا لوحدهم في هذا المسعى، إذ إن بزوغهم مجددا في المجال العام تصادف زمنيا مع ظهور الإسلاموية (الإسلام السياسي )، والذي كان أيضا من منتجات التحرر السياسي والاقتصادي (الانفتاح) الساداتي في السبعينيات.
فكرة التوبة
وفي أعقاب هزيمة عام 1967، أثار علماء الأزهر فكرة التوبة. لقد أعطتهم النكسة (الهزيمة) الفرصة ليتحدّثوا علنا عن ضرورة العودة إلى الدين وتنشيط الذاكرة الدينية الجماعية. ومنذ ذلك الوقت ولاحقا، حصل العلماء على فرصة لتحويل خطاباتهم علنا من الإشادة بالاشتراكية العربية إلى التذكير بسيادة الإسلام. حقا، لقد كانت الهزيمة مثل النصر، وكان لا بد من تفسيرها على أساس كونها درسا من الله. وفي نهاية عام 1967، كتب الشيخ عبد اللطيف السبكي، رئيس تحرير مجلة الأزهر، يقول: «لقد أعطى الله أعداءنا انتصارهم ليس لأنه لا يحبّنا، ولكن من أجل أن يتمادوا في المعصية. انتصارهم هو علاج وتوبيخ لنا، لأننا حقرنا أنفسنا... ونحن، الآن، قادرون على تحقيق ما كنا قد تركناه وراءنا ونتذكر ما نسينا». (29) لا يختلف هذا التصوير للهزيمة كعقاب من الله وكفرصة للتوبة كثيرا عن التصريحات أعطاها عبد الناصر بنفسه في ذلك الوقت؛ ففي 23 يوليو 1967، وصف الرئيس المصري الأزمة التي تهدد النظام كدرس أرسله الله إلى الأمة من أجل «تطهيرها».
(30)
حملة مكافحة اليسار
لقد استعمل الساداتُ العلماءَ الرسميين كوسيلة للتخلص من المعارضة اليسارية، أي كما استخدم عبد الناصر علماء الأزهر ضد الإخوان. وتماما كما وَفَّقَ الأزهر رسميا بين الإسلام والاشتراكية خلال الستينيات من خلال فتاوى العلماء الرسميين، وجدت المؤسسة الدينية نفسها بعد مرور عشر سنوات تمنح الشرعية للتوجهات السياسية والاقتصادية الجديدة لنظام السادات. وبعد مظاهرات الطلبة عام 1972، وصف شيخ الأزهر، محمد الفحام، الشباب اليساري ضمنيا ككفار ونصحهم بأن يتوبوا ويعودوا إلى الإسلام (31). وفي عام 1975، استخدم السادات فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود السابقة ضد الشيوعيين لإطلاق حملته المناهضة لليسار في وسائل الإعلام، واستخدمت هذه الفتاوى آلية التكفير؛ وهو الاتهام نفسه الذي استخدم في الفترة نفسها بطريقة أكثر شمولا من قبل الإسلامويين العنيفين الذين لم يتلقوا تعليمهم في الأزهر. لقد كتب الشيخ عبد الحليم محمود: «الشيوعية كفر، والمؤمنون بها ليسوا مسلمين» (32). وتجرأت جماعات إسلاموية على تكفير الحاكم (33)، وحكمت عليه بالإعدام. ولم يتردد الشيخ عبد الحليم محمود في استخدام سلاح التكفير ضد الشيوعيين المصريين، لتلبية احتياجات النظام.
وشكل عقد السبعينيات فرصة حتى بالنسبة إلى العلماء الذين أيّدوا بحماس الفكر الناصري في الستينيات لتحويل خطابهم من تأييد القومية العربية والاشتراكية إلى الإصلاح الداخلي للمجتمع، من خلال ما وصفوه بـ «العودة» إلى الدين. وكتب الشيخ البهي، الذي أشرف على إصلاح جامعة الأزهر، في عام 1979 أن «ثورة يوليو 1952 قد تسببت بـ فراغ ديني ودمّرت الدين، كما فعل الاستعمار. ففي ظل نظام عبد الناصر، احتلت القومية العربية محل الإسلام بينما تاريخ العرب هو، في الواقع، تاريخ الإسلام». (34)
الحركات الإسلاموية:
تحدّ جديد للأزهر الرسمي؟
وقدّمت بيئةُ السبعينيات للعلماء، أيضا، إطارا سياسيا جديدا للعمل؛ فخلال العصر الذي اتسم بالتحرر الاقتصادي والسياسي، بزغت على المشهد السياسي حركات جديدة تمثل الإسلام الراديكالي. لقد تلقى أعضاء هذه الحركات الإسلاموية ومفسرو القرآن والسنة الجدد تعليمهم في المؤسسات الحديثة، ودمجوا عبر عملية «الترقيع الفكري» المفردات الدينية الكلاسيكية بمطالباتهم السياسية الحديثة، وحرموا رئيس الدولة المصرية من الانتماء الإسلاميّ بعد أن وصفوه بأنه حاكم جاهليّ. واتهم أعضاء هذه الجماعات الإسلاموية المتطرفة العلماء بكونهم عاجزين عن مجاراة التطورات السياسية، وندّدوا باستخدامهم الإسلام لخدمة السلطة فحسب.
وبتشجيع من سياسات السادات التحررية، كسّرت الحركةُ الإسلاموية الاحتكار الديني للأزهر، وسحبت بمهارة المؤسسة الدينية الرسمية إلى قلب الساحة السياسية للمشاركة بجانبها في المناقشات العامة التي يثيرها هذا النوع الجديد من التحرر السياسي الساداتي.
ومنح عبد الحليم محمود الأزهر دورا وأسلوبا جديدين، عبر محاولة التعامل مع هؤلاء المفسرين الجدد للدين ومحاولة أن يقوم بدور «المحاور» الرئيس مع الإسلام السياسي العنيف ليحرم النظام العسكري من هذا الدور. وكان الأزهر قد بدأ محاولاته الخاصة لإعادة المجتمع المصري إلى الإسلام في عام 1967، قبل ظهور الحركات الإسلاموية على الساحة العامة؛ ولكن ظهور الإسلام الراديكالي أربك المشهد، ودفع النظام والأزهر إلى أن يصبحا ضد بعضهما في لعبة تتكون من ثلاث جهات فاعلة رئيسة مواقفها متشابكة تشابكا وثيقا، وإن كان من الصعب أحيانا التمييز بوضوح بين تلك المواقف الثلاثة: أولئك الذين في السلطة السياسية، والإسلامويون، والأزهر الذي يمثّله الشيخ عبد الحليم محمود.
** ** **
هوامش المترجم
(*) يعرّف معجم وبستر الإنكليزي البريكولاج (Bricolage) كالتالي: «البناء - كما في النحت أو إنتاج الأفكار - باستخدام أي شيء متوفر وقريب من اليد لحظتها» أ. هـ. وقد نحتنا مصطلح «ترقيع» (ويعني: عمل مرتجل أو غير متقن) لترجمة «البريكولاج» ولا نعلم بمن سبقنا في استعماله؛ على الرغم من أن معجم «المورد الأكبر» الشهير استخدم مصطلح «اللهوجة»، لأن «ترقيع» مباشر وأكثر انضباطا مع شرح أوليفييه روا لقصده في كتابه «تجربة الإسلام السياسي» (دار الساقي، ط-2، 1996، ص 95): «وكون المعرفة في متناول الجميع يفترض التوصل المباشر إلى محتوى أصبح عِقَديا جامداً عبر إخفاء مجريات نشأته. ووسائل الإعلام الجديدة، كالإذاعة والتلفزيون والأشرطة المسجلة والكراسات المستنسخة الزهيدة الثمن، تبث شذرات من هذا المحتوى. المثقف الإسلاموي الجديد مُرَقِّع، أي أنه يمارس عملية تركيب النتف والشذرات على هدي مسارات شخصية ومحاور من العلم، ووفق طريقة استخدام لم تنشأ عن العالم المفهومي الذي تنتمي إليه المحاور التي يفترض به أن يجمعها في كلِّ متخيّل أكثر من نظريا، وهو يعوّض غياب المدونة الحقيقية التي يفترض به تملكها والتحكم بها بالإحالة إلى معرفة شعارية تستعرض دون أن يتاح تمحيصها؛ ذلك أن هذا الالتفاف يفترض، بالضبط، أن يكون المرء علميا أو دينيا، وهو الأمر الذي لا تتيحه الشبكة المدرسية «الحديثة» التي تنتج المثقف الجديد». أ. ه. (العيسى)
................................................. يتبع
- ترجمة وتعليق: د. حمد العيسى