د. عبدالحق عزوزي
يعد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية واحدا من المراكز البحثية العليا التي يعتز بها في الوطن العربي والإسلامي بل وبين المراكز الدولية في مجال التنمية المعرفية والإنتاج الفكري واللقاءات الهادفة،... ولقد تأسس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
الإسلامية في العام 1403هـ/ 1983م، وهو يوفر خدمات متعددة تتماشى مع الرؤيا الخاصة لمؤسسة الملك فيصل الخيرية. كما يهدف المركز إلى دعم البحوث والدراسات وتطويرها لنشر رؤيا الملك فيصل وتوسيع أفق المعرفة حول الموضوعات المتعلقة بالدراسات الإسلامية، والسياسة، وعلم الاجتماع والإرث. ويضم المركز وحدات بحث متعددة تجمع الباحثين في حقول مختلفة للمساهمة في بناء المعرفة وتوسيعها. بالإضافة إلى ذلك، يشجع المركز الباحثين والطلاب على المشاركة في البحوث إذ يوفر لهم إمكانية استخدام المكتبة والاطلاع على المراجع الكثيرة التي تتضمنها من عناوين، وقواعد بيانات، ومجموعات مميزة. كذلك، يعمد المركز، بالدرجة الأولى، إلى نشر المعرفة، فينظم المحاضرات، ويقيم ورش العمل والمعارض بشكلٍ سنوي. وهو يرمي، بشكلٍ رئيسي، إلى تأدية دور بارز في إنارة الشعوب ثقافيًا وفكرياً.
كما أن للمركز نخبة لا يعلى عليها من المسؤولين ورجال الفكر والموظفين الذين يحققون ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع؛ وعلى رأسهم الدكتور يحيى محمود بن جنيد الأمين العام لمركز الملك فيصل وهو صاحب مشروع فكري من الطراز المعرفي الهائل سيبقى مرجعا للأجيال لا محيد عنه والقائم على البحث والتنقيب المعمق والمدجج بقوة الأسلوب وعظمة الفكرة والاستشهاد وهو رفيق الكتب والمخطوطات النوادر التي لا يضعها من يده... وهو العالم الفذ، المكرم الفاضل، وجدت فيه من السجايا وحب بلده ما لا يوجد في غيره، وهو يعمل بانتظام واستمرار مؤمناً بشعار واحد هو الإنتاج والإسهام في التراكم المعرفي، وبمزاجية تختلط فيها الخصوصيات الذاتية لرجل يعشق الفكر بالحركة الدائبة والإقدام على المحاولات الجادة لسبر أغوار المجاهيل التي يُكابد من أجل الكشف عنها كلّياً أو جزئياً المشاقّ لتغتني المعرفة.. وقد أعطيت مؤخرا في مركز الملك فيصل بدعوة كريمة منه محاضرة عن الإستراتيجية وكيفية صياغتها في القرن الواحد والعشرين في بيئة دولية معاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيدا وأكثر غموضا من أي وقت مضى.
وكلمة الإستراتيجية تحمل في مدلولها اللاتيني Stratos أي الجيش و ageîn أي إدارة وتعني علم وفن إدارة مجموعة قوى الأمة في الجانب السياسي والحربي والاقتصادي والمعنوي لقيادة حرب أو إدارة أزمة أو الحفاظ على الأمن... وفي معناها العام توحي الكلمة إلى صياغة السياسة تماشيا مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانيات، وليس حصرا في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضا في المجالات الاقتصادية والإستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية، إلخ.. والإستراتيجية هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل.
ودول العالم تعيش اليوم في حال من الارتباك الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي.. وهذا الارتباك لا يسلم منه أحد، حتى الدول الاقتصادية العظمى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وجل دول أوروبا؛ فهناك أحداث عميقة الأثر، لم يكن أحد ينذر بها؛ وهناك تحولات متزامنة تجعل متخذي القرار في حيرة من أمرهم؛ وانتقلت سياسات الدول من الليبرالية إلى الحمائية، ومن داعية للاستقرار إلى سند للتغيير.. ولكن محددات السياسات الخارجية عموماً، والنظام الاقتصادي، والاستراتيجيات التحالفية والأمنية، تغيرت في معظم الدول، أو لنقل تجندت الدول كلها لإعادة النظر في سياساتها المحلية، باتجاه استتباب الأمن في الداخل، وتحقيق التنمية لشعوبها، وإعادة النظر في سياساتها الخارجية، وتحالفاتها الإقليمية والدولية؛ وهذه الوضعية أحدثت ارتباكاً في النفوس، وقلقاً في الأذهان، وصعوبة في أخذ القرارات الحاسمة.
وصياغة الإستراتيجية في هذا الباب توحي بمدى قدرة أي بلد على التأثير في مجريات الأحداث واستباق المشاكل الممكنة... وقد تعددت أنواع حقول الإستراتيجية وإن كانت في جوهرها واحدة من حيث الأهداف والأساليب. ومن بين تلكم الحقول هناك الإستراتيجية المجالية بما فيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وهناك مستوى الإستراتيجية أي إستراتيجية عليا وإستراتيجية عسكرية وإستراتيجية عملياتية وفي مجال الإستراتيجية العسكرية هناك الإستراتيجية البرية والبحرية والجوية ويمكن استقراء الإستراتيجية أيضا من حيث الزمن فقد تكون شاملة وعامة وقد تكون محدودة ومرحلية ومن حيث الوصول إلى الغايات هناك الإستراتيجية المباشرة وغير المباشرة... ولكن لضمان نجاح كل هاته المستويات، على كل الأفراد والمؤسسات المعنية العمل في إطار تناغم وتكامل لكي تساهم جميعا في تحقيق الهدف العام للسياسة. فعندما قرر الرئيس الابن بوش التدخل عسكريا في العراق، وبالرجوع إلى كتابات أهم الفاعلين في تلك الفترة، نفهم أن المحافظين الجدد وعن اقتناع وجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطية لتنفيذ بعض من استراتيجيتهم التي كانوا قد وضعوها ويؤمنوا بها للدفاع عن المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. فوقع التدخل العسكري ونجح الشق الأول من النظرية الإستراتيجية للمحافظين الجدد أي إزالة نظام صدام وإن كان التدخل مبنيا على مبررات خاطئة (مثلا توفر العراق على الأسلحة النووية) ولكن الشق الثاني (سقوط الأنظمة المجاورة) والثالث (الدمقرطة السريعة للعراق) من النظرية لم يقع، فأنظمة الدول المجاورة لم تصبها في تلك الفترة أية تغييرات سياسية كما كان يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون، كما أن دولة العراق وبعد عقد من الزمن لم تتمكن الديمقراطية الحديثة من الاستقرار فيها؛ فهنا نرى فشل السياسة الأمريكية في بناء عراق ما بعد صدام... ولعمري فالمخططون الأمريكيون لم تكن عندهم المكنة الفكرية والعلمية والذهنية الكافية للتخطيط المحكم لهاته الفترة ولهذا البلد... فدولة كالعراق ليست هي ألمانيا واليابان لما بعد الحرب العالمية الثانية كما كان يظن ذلك ديك تشيني ودونالد رامزفيلد... وقد يسأل سائل عن مكمن الخطأ: هل عند الإستراتيجيي أو عند المخطط الأمريكي أو عند السياسي الأمريكي؟ أظن أن الخطأ مشترك ولكن يتحمله بالدرجة الأولى الإستراتيجي... فلو صاغ إستراتيجية بناء دولةلعراق ما بعد سقوط نظام صدام بدقة كما صاغ إستراتيجيته لإسقاط نظام صدام لأخذت منذ البداية الإجراءات والتدابير والسيناريوهات الممكنة من المخطط لبناء دولة ما بعد انهيار النظام السلطوي، هذا إذا كانت نية الإستراتيجي حسنة (الوصول إلى الغاية القصوى وهي بناء دولة عراقية ديمقراطية لا مذهبية ولا طائفية).
إذن حاصل القول إن جميع الطرق والوسائل المستعملة يجب أن تكون مجتمعة لخدمة الهدف النهائي الذي سطرته السلطة السياسية العليا للبلد... وإذا أخذنا الإستراتيجية العسكرية فلا تعني فقط مما تعنيه التدخل العسكري الدائم أو الوحيد، فالاحتواء الإستراتيجي يلعب في الكثير من الأحيان دورا رياديا من حيث المردودية ونفس الشيء في المجالات الاجتماعية الأخرى... وهنا نستحضر هاته الحكاية التاريخية المعروفة عند الذين يزاولون الكندو (Kendo) (طريق السيف) وتعبر بجلاء عن نظرية الاحتواء الإستراتيجي:
- «...» ذات يوم، دخل رجل يحمل سلاحا وهو منهك القوى إلى مدينة صغيرة، ليبحث عن أكل وعمل.
- لم يجد شيئا يقتات منه أو يشربه.
- فإذا به يجد نفسه تجاه رجل مسلح يحمل سيفا براقا، وأعطاه موعدا في الغد ليتبارزا وسط المدينة وبحضور الخاص والعام.
- زائر المدينة استعلم عن ذلك الرجل، فوجده من أعتى المحاربين وأقواهم، وله قوة وتجربة لا يعلى عليها، وهو من صناديد المحاربين بالسيوف والرمي، وشارك في الحروب وتصدى لكل الهجمات... فذهب عند معلم الفنون الحربية في المدينة... فأمره بأن يصلي على نفسه صلاة الموت لأن الوقت غير كاف لتعلم فنون الحرب المتطورة ومجابهة المحارب وطلب منه أن يقصد رجل دين بوذي حتى يتعلم الحكمة، فقصده ونصحه رجل الدين البوذي أنه في وقت المبارزة يجب عليه أن يبقى دون حركة أثناء القتال وأن يغمض عينيه وأن يقرأ صلاته المعتادة ويحرك بها شفتيه بصوت غير مرتفع... فلم يفهم الزائر شيئا وظن أنه قد كتب عليه مسبقا موت سريع، فغاضه ما سمعه من نصيحة إلا أن رجل الدين البوذي قال له هاته هي الوسيلة الوحيدة لتبقى على قيد الحياة.
- وفي وقت المبارزة، تعجب المحارب من ردة فعل الزائر، رجل يغمض عينيه وجالس بدون حركة يتمتم صلوات غير مفهومة، فبدأ يفكر المحارب لأنه كان ذا فكر، فالزائر 1) إما أن يكون أحمقا 2) أو أنه رجل انتحاري 3) أو أنه رجل قوي جدا.
- «فإذا كان أحمقا، فهذا لن يزيد من قوتي وشهرتي في شيء؛ وإذا كان انتحاريا فسيكون من الحمق مساعدته على ذلك؛ وإذا كان قويا جدا، فقد يودي بحياتي إلى التهلكة».
- فكانت نتيجة ذلك أن الزائر استقر نهائيا وبرخاء في المدينة الصغيرة، وعاش حياة مديدة.
هاته القصة المعبرة لفلسفة سوان تزو Sun Tzu عن فن الحرب تعبر عن العبقرية في الإستراتيجية التي هي ليست المبارزة المباشرة أمنيا أو اقتصاديا أو غير ذلك.. ولكن هي احتواء وتطويق بأقل تكلفة، بمعنى تطويق إستراتيجية الآخر وجعل الطريق الوعرة طريقا سهلة.