د. محمد عبدالله العوين
لم تبتدع الجماعات المتطرفة جديدا حين نادت بالنأي عن المجتمع الضال وتكوين مجتمع جديد غير ملوث بأدران الزمان ولا متطبع بطبائعه ولا مستسلم لضروراته ومناهجه؛ فبوكو حرام النيجيرية التي تعني في عنوانها العريض «التعليم حرام» أخذت المنهج من «جماعة المسلمين» المصرية التي عرفت لاحقا بجماعة التكفير والهجرة واستسقت تعاليمها المتزمتة الأحادية المصادمة للمجتمع من مؤسس الجماعة شكري مصطفى الذي نادى بتحريم التعليم المدني النظامي والاقتصار على علوم الدين بالطريقة التقليدية القديمة على نحو ما كانت عليه في الكتاتيب؛ على الرغم من أنه انتسب وهو في السجن منتصف الستينيات الهجرية من القرن الماضي إلى كلية الزراعة ونال شهادة البكالوريوس منها.
لقد نادي شكري مصطفى بمفهوم «التبين» متبعا منهجا خوارجيا قديما طبقه نافع بن الأزرق وسار عليه مريدوه؛ وهو «الاستعراض» أي أن الناس الذين لم يبايعوا إمام الجماعة أو الخليفة المختار لا يمكن أن يحكم عليهم بإسلام أو بكفر حتى يتم تبين حالهم، هل يؤدون فرائض الإسلام كلها أم لا ؟ وهل يؤمنون بالبيعة لإمام الجماعة أم لا ؟ فإن ثبت بعد التبين أنهم أخلوا ولو بفريضة واحدة أو لم يذعنوا ويقدموا البيعة عن يد وهم صاغرون لإمام الجماعة كفروا ووجب اعتزالهم وقتالهم!
فجماعة المسلمين التي عرفت بعد بجماعة التكفير والهجرة تكفر بالمعصية، فهم يخرجون المسلم من إسلامه بإخلاله بفرض واحد، ثم لا يؤمنون بالتعايش مع من اعتقدوا أنهم أخلوا ولو بفريضة واحدة؛ فلا بد - في مذهبهم - أن يعتزلوهم وينأوا عنهم؛ ابتغاء لسلامة دينهم كما يزعمون!
والحق أن هذه الدعوة لم تكن من بنات أفكار شكري مصطفى؛ بل كانت ثمرة من ثمرات صحبته في السجن سيد قطب وعلي إسماعيل، وهو أخو عبد الفتاح إسماعيل الذي حكم عليه بالإعدام مع سيد ويوسف هواش ونفذ صبيحة يوم التاسع والعشرين من أغسطس 1966م، لقد تلقى شكري مبادئ الرفض والنقمة على المجتمع وتشبع بكراهيته ووقر في وجدانه ما كان يقرره سيد وعلي إسماعيل وغيرهما بأن المجتمع يعيش جاهلية، وأن من يقودون دفته ضالون عن منهج الله الحق، وهنا كتب علي إسماعيل أطروحاته المبكرة عن التكفير والهجرة وهو في السجن وتلقفها الشاب الحدث الذي كان - آنذاك - يناهز العشرين عاما - وحين خرج من السجن اشتغل على تطبيق المبادئ التي تلقاها من أستاذه الشيخ علي - على الرغم من أن أستاذه تراجع لا حقا عن أفكاره كما أشيع - وبدأ شكري في نشر دعوته إلى اعتزال المجتمع والخروج على نظامه العام والهجرة إلى النجوع والكهوف والزراعات البعيدة عن الناس.
وإذا كان الشيخ علي قد أوحى إلى تلميذه بأفكار التكفير والهجرة وتولى سيد قطب منح هذه الأفكار الصياغات الأيدلوجية بأسلوب أدبي يكاد يكون أقرب إلى لغة الدساتير المبسطة كما هو شأنه في كتابه «معالم في الطريق» فإن عليا أيضا لم يأت بجديد؛ فقد سبقه إلى تقنين مبادئ العزلة والنفور وعدم الاعتراف بإسلام المجتمع شيخ الخوارج ومنظرهم الأول عبد الله بن وهب الراسبي الذي كان يجمع بين شدة الزهد وكثرة العبادة والتعجل في إصدار الأحكام القاسية على من يختلف معه؛ كما فعل مع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومن تبعه ممن بايعوه بالخلافة واقتنعوا بالتحكيم؛ فقد نقم على الخليفة علي رضاه بتحكيم الرجال وكفره ونادى بالعزلة عن مجتمع الضلال كما أسماه بقوله «فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضللة».
وقد نهجت القاعدة منهح الخوارج في تكفير المسلمين وحربهم، وطور أبو مصعب الزرقاوي منهج القاعدة إلى أن أصبح منهجا خارجيا صرفا طبقه أبو بكر البغدادي وزاد عليه بادعاء الخلافة الذي كان عند شكري أميرا للمؤمنين فحسب!
وما ترتكبه داعش ليس إلا استلهاما وتطويرا لأفكار الراسبي وعلي إسماعيل وسيد قطب وشكري مصطفى وابن لادن والزرقاوي.