الجزيرة - المحليات:
أوضح الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى وزير العدل السابق أن الأفعال الجُرْميَّة التي قاد إليها الفكر الضال فبلغت من بشاعتها استهداف أماكن العبادة لا تصدر في توصيفها الشرعي والعقلي إلا عمن تنكب قيم الإسلام وتخطى حدوده فتجاسر في غمرة ضلاله على الاستهانة بحرماته في تيه من الانحراف والتأويل الفاسد الذي استحكم على العقول المختطفة، وهي تنتحل يوماً بعد آخر على الدين نسجاً مغشوشاً يتلقفه كل مفتون، حتى نالوا من أهل الإسلام في أخص عباداتهم، وأحظى بقاعهم، فباتوا منهم على مشاهد مؤلمة تسللوا بها على حدود الشرع الذي حقن دماء غير المسلمين وصان أموالهم وأعراضهم، فكيف بأهله: أهل قبلتهم، {وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وأضاف د. العيسى: «إننا أمام قضية فكر ضال موجه للوطن بأسره سنة وشيعة، فجميعهم على تكفير أهله واستهدافهم على حد سواء، غير أنه يراهن على تدبير خاسر يحسب أنه مُوْصِلٌ لضرب هذا التنوع والتعدد المشمول بالحماية الوطنية منذ تأسست الدولة على يد جلالة الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- إلى هذا العهد الميمون لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو -حفظه الله- من أكدت كلماته الضافية في هذا الشأن على موقف الدولة الحازم والصارم إزاء كل مغرض ومفسد، فأجزل الله مثوبته.
وتابع العيسى قائلاً: «غير أن ذلكم الرهان ارتد على سوء تدبيرهم، فزاد الوطن بجميع فئاته تلاحماً وتقارباً، حتى تلاشت حالات فردية غير محسوبة إلا على نفسها فهي مقصاة ومتعقبَّة من الجميع، كانت سابقاً تائهة في وهم خاطئ -متبادل من الطرفين- لتعود للجماعة الوطنية الواحدة، وقد أدركت من خلال مُخَلَّفات هذه الأعمال الجرمية وهمها الكبير، وهذا الأمر وإن كان يمثل إفرازاً متوقعاً في كل زمان ومكان ومصنفاً في التوصيف الاجتماعي بالحالة المعتادة إلا أنه ينصهر أمام تلاحمنا الوطني على هدي الكتاب والسنة الذي جمع الله به كلمتنا ووحد صفنا وعليه تأسس كيان هذه الدولة المباركة.
وأكد د. العيسى قائلاً: «إن الدولة هي بعون الله صمام أمان التفهم الإيجابي لهذا التنوع المذهبي المحكوم بمظلة واحدة، وهو ما لم يخل منه زمان ولا مكان، ولذا يتعين تفويت الفرصة على كل متربص بهذا الأمان، وهو لا يعول على الفعلة ذاتها التي غالباً ما تُجهض في مهدها بما يسره الله تعالى من القدرات الأمنية، وإنما على أثرها في قراءة الحماسة المتسرعة التي تفتقد للإدراك الواعي والتقدير الصحيح للأبعاد والمآلات.
وواصل العيسى قائلاً: هذا الفراغ متى حصل فإنه لا يخدم إلا العدو الذي لا يُغاض في شيء بقدر ما يغاض بتفويتنا الفرصة عليه بسعة أفقنا الشرعي وارتقائنا الوطني والفكري من خلال القراءة الصحيحة لهذه المحاولات اليائسة.
ولن تكون المستهدفات المباشرة بأشد ألماً ولا حرصاً من الدولة الراعية، التي ردَّ الله بها عن هذه المستهدفات مثل ما رد عن غيرها كوارث عدة.
أما التسلل المعزول في حالاته التي لا تذكر ولا تقارن بما لا يحصى من رد كيده والمعافاة من شره فإنها تجري على دول تمتلك من الأدوات ما يعتقد الجميع أنها تمثل الغاية في الرقابة والرصد، وهي سنة الله في خلقه؛ فالحفظ المطلق خاص بالمولى جل وعلا وحده، ومع هذا فإن المملكة وبشهادة الدول الرائدة في امتلاك تلكم الأدوات تعد في طلائع الدول في قدراتها الأمنية ولها في منازلة الإرهاب ودحره أكبر شاهد.
ولا يشك أي متابع أن الإرهاب بفكره الضال قد وجه سهامه على المملكة العربية السعودية أكثر من غيرها، كما لا يَشك المتابع أن الضربات الاستباقية أوضحت في بياناتها الرسمية الموثقة كوارث مفزعة قد سلم الله البلاد والعباد منها بإجهاضها في مهدها، وهي موجهة للجميع سنة وشيعة، والواجب شكر النعم التي ينغمر في خيرها العميم ما لا بد منه من الحالات العارضة والمعزولة التي لا سلامة منها إلا بالعصمة.
وأضاف الدكتور محمد العيسى بأن الوطن أحوج ما يكون إلى تماسك أفراده وتواصيهم بالبر والتقوى، ولن يسعد العدو بشيء مثلما يسعد بردود الفعل التي راهن عليها بجريمته، ومصاب المثار بها لا يقل على المثار عليه، كما أن الوطن على ما نشأ أبناؤه في محاضن تربية الإسلام وما تولد عنها من قيم وطنية عليا أحوج ما يكون إلى الالتفاف حول رايته الواحدة، وفي المكاشفة بالحكمة والروية والتعقل أفضل وسيلة للتلاقي الأخوي بكل ما تحمله الأفكار والرؤى نحو كل طرف.
وليس في ردود الأفعال السلبية وسجالاتها رابح وخاسر بل الجميع خاسر وإنما الرابح الوحيد المتربص، عندما يكسب رهانه.
وقد شهدت وقائع التاريخ أن التعبئة السلبية نحو كل طرف تجمعه مع الآخر مظلة واحدة، لا عائد من ورائها سوى تعميق الصراع وإحداث منطقة فراغ تمثل نقطة ارتكاز المغرض لترتد في نهاية مطافها على الجانبين في مصيرهما المشترك المتعين الالتفاف حوله.
ولن يضار أحد أو يصادر في قناعاته الخاصة أياً كانت، فما توافق الناس مع أهليهم وأقربيهم بل ومع أنفسهم وهم يجلدون ذواتهم حتى يتوافقوا مع غيرهم، والاختلاف يبدأ من دائرته الضيقة آخذاً في الاتساع والشمول، لكنه متى خرج عن آدابه الشرعية منحرفاً عن مساره الصحيح كان ضاراً حتى في دائرته الأُولى.
ويشطح التأويل عندما يُسقط كل مخالف على الآخر مصابه الذي يعكس في حقيقته مصاب الجميع.
والاختلاف المنضبط هو على ما أشرنا سنة كونية، ومن ظن أن في الوسع حمل الخلق جميعاً على منهج واحد، متجاوزاً ما شرعه الله من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فقد جانب الصواب، ومن عول على نكاية التنابز والتوجس بين الإخوان لاختلاف يمثل خصوصية مذهبية فقد أخطأ في وهمه وفتح على نفسه باباً قبل غيره ليس وراءه إلا ريح عاصف، وغير خاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى سلوك السبيل الأمثل بالسمو في القول حتى مع من أساء، فكيف إذا كانت الإساءة بالتبادر.
وتحدث د. العيسى عن التصنيف فقال: «سوالب التصنيفات الفكرية والمذهبية في طليعة مهددات سلم المجتمع وسكينته وعلى الجميع التصدي له كل بحسب مسؤوليته، وفي المقابل يتعين الحذر من أساليب الإثارة والشحن والتهييج، فالوطن للجميع وهم منه وإليه، وهو الروح الجامعة لهم تحت مظلته وقيادته المُستهدية بهدي الشرع الحنيف.
وتابع قائلاً: «وعندما أيس المستعمر من تبدل هوية الأمة وتحول ولاءاتها عمد إلى ورقته الرابحة بالتصنيف الطائفي والفكري، فأذكى الفتن والصراعات، وأقام داخل البلدان المستعمرة مناطق نفوذ على أساس طائفي، لتَعْتمل داخل الأمة.
ولما كان انتحال الأفكار والآراء يمثل كيان الجماعة، ويبلغ في دواخلها مستوى الكرامة، وإثبات الوجود، مشحوناً في كثير من أحيانه بنعرة التعصب البشرية التي لم تُزَمّ بزمام الشرع، عندئذ لاقت الدعوة إلى إثبات ذلكم الوجود بكيان التقسيم المؤسسي آذاناً صاغية.
وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن تفريق الأمة بالطائفية والاختراقات الفكرية هي صنعة المستعمر «حديثاً» والمتسلل المغرض داخل جسدها «قديماً»، حيث نفخ في حوادثها التاريخية والفكرية، وألهب كل فريق على الآخر، بل ومن سوء التدبير أن من فئات أولئك من يُصَدِّر للأُخْرى مواعظ ودلائل تتخللها عبارات التصعيد اللفظي والنيل المستفز والمهيج من ثوابت كل فريق ومقدساته بما يتجاوز إيضاح ما يُدان الله به بدليله، وقد نهى الله عن سباب الذين يدعون من دون الله سداً للذريعة سبهم الله تعالى عدواً بغير علم، هذا مع الكافر، فكيف بالحال مع المسلم.
ولو كان المتلقي على وشك القناعة بوجهة الآخر فاستُفز بها لكابر عناداً، وبالرغم من كونها لم تصل لغاية مرادها من الجانبين فإن عدداً منها لا يزال بفعل عدم التهذيب المنهجي على مساره الخاطئ، على رغم ما يرى من رد بضاعته إليه مع مزيد من الشتائم، وكثير منها اليوم خارج نطاق الطوق؛ إذ فتح الفضاء إعلاماً تصعب السيطرة عليه، خاصة أن نفراً من أولئك هم اليوم في أحضان حماية الأجنبي في لفيف دول انفتحت على الحريات دون سقف، وهي الأسعد بأثرها السيء على البلاد الإسلامية، فخُدم المستعمر في تدابيره السابقة وهو في داره، وإذا دلته تجاربه على أن أمة الإسلام تقف في وجه المعتدي صفاً واحداً متناسية خلافاتها فإن ضربها ببعض بالتصنيفات الطائفية والفكرية يمثل المنازلة الفاصلة معها.
ومع هذا فمن أخطأ خطأ بيناً بُيِّن له الحق بالحكمة والموعظة الحسنة على ما أمر الله تعالى، وإذا كان المولى سبحانه أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يقولا قولاً ليناً لفرعون، وقد قال: «أنا ربكم الأعلى»، والعلة في ذلك «لعله يتذكر أو يخشى» فكيف بأهل أخوة الإسلام!!، ومن شدَّد شدَّد الله عليه».
وواصل الدكتور العيسى بقوله: وواجب أن يستشعر كل منا خطورة الانحراف بالخطاب الإسلامي عن اعتداله الشرعي فما ولَّدت الإساءة إلا ردة فعل أسوأ منها، وكلمة الحق متى توشحت بلباس فض انفض عنها الخلق، بل كالوا لها ما يزيد على فضاضتها، فينحصرالحوار في فاتحته وخاتمته على التنابز بالألفاظ والشحن والمغالبة والتباري في فحش القول، ولا تَسَلْ عن الحقيقة عندئذ وقد تلاشت في أغبرة فجاجة طرح كلا الجانبين.
وخطاب الشرع راحم للخلق، ملامس لفطرتهم، تتلقاه القلوب الحية وتصغي إليه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، ولكل منا مع «أنفسنا» وهم «إخواننا» مصلحة دين بالتقارب بحسب الوُسع نحو كلمة الحق مع تفهم كل منا لطبيعة الاختلاف كوناً وقدراً حتى بيننا وبين أقرب الناس إلينا (في كافة شؤوننا)، ومصلحة دنيا في التعايش بالسلم والمحبة لتحقيق صالح البلاد والعباد، وهو من القدرُ المشترك الذي يجب أن نسمو به، فلكل منا حقوق وواجبات في المواطنة وفي العيش بتلاق ومحبة على ثرى وطننا الغالي، نؤسس عليه الأجيال القادمة لتترعرع في محاضن التربية الأهم والأكثر تأثيراً وهي بيوتاتنا قبل دور تعليمنا التي غالباً ما تركز على تكويننا العلمي مع ما تحرص عليه في مقرراتها التربوية على تعميق معاني التربية الوطنية الحاضنة للجميع، وهي أسعد بأي تكامل داعم لهذا المعنى الوطني الكبير فكلنا مرآة بعض.
وللدولة وفقها الله مؤسسات شرعية وتربوية واجتماعية تضطلع بدورها الوطني في هذا الشأن وتعول كثيراً في إحالتها على ما لا بد منه من وعي المواطن في سعة إدراكه لمصلحته ومصلحة وطنه وإخوانه على مبادئ هدي الإسلام الحنيف الذي يحمله دوماً خطاب ولاة أمرنا لرعيتهم.
وختم الدكتور العيسى بالقول: «لا يَعْجب المرء من شيء مثلما يَعْجب من الدليل المادي الماثل أمام حملة الخطاب التحريضي كيف يُقيمون على منهجهم المؤسف وهم لا يرون من نتائجه إلا العودة للوراء وشحن النفوس وتهييجها وانصرافها عن المحتوى إلى مهاترات لفظية وتنابز بالألقاب ينعى على العقل والحكمة قبل أن يسمح عصفه اللفظي (في مده المسيء) بتدارس أصل الفكرة، وعظة التاريخ لا يُهْدى للاعتبار بها إلا الموفقون ومن تسرع صار عظة لغيره».