د. فوزية البكر
توقفت منذ زمن عن إحصاء أعداد القتلى والجرحى وبالتحديد في هاتين المدينتين العظيمتين.. ما يحدث أكبر بكثير من أن يتحمل وقع خطواته المدمرة اليومية أي عقل بشري، لذا أفكر: كيف بمن هم تحت ناره؟ كيف بكل أم ثكلى أو أب مكسور أو زوجة مشردة تجر خلفها أطفالا حفاة عراة تتطاير نظراتهم من الخوف
والهلع والتشرد فهم أشبه بما كنا نراه في أفلام قديمة مثل البؤساء وبين مدينتين (هذه أفلام كلاسيكية تتحدث عن الأوضاع في أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر قبل الثورة الفرنسية التي دكت رحى الإقطاع والامتيازات اللا محدودة التي استمتعت بها الإمبراطورية المتكلسة ومن يحيط بها من أرستقراط ورجال دين ومعها النفوذ المسيحي المتشدد للكنيسة الكاثوليكية عام 1789).
من الضروري في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا الإسلامي أن نقلب صفحات تاريخ الشعوب التي عاشت صراعات دينية وندرسها بعناية وهذه فكرة دراسة التاريخ: أن نفهم لماذا قامت أحداث معينة وما دور الأفراد والجماعات المسيطرة -آنذاك- في أحداثها وما الذي يمكن لنا نحن كأفراد وجماعات أن نفعل حتى نتأكد بأن ما حدث لن يتكرر مرة أخرى.
لنأخذ ما مرّت به أوروبا مثلا من صراعات دينية دامية وهذه الصراعات لم تكن بين مذاهب أو أديان مختلفة بل كانت بين فرق وطوائف داخل الديانة المسيحية نفسها: بين الكاثوليك الذين كانوا يرون أنفسهم كحماة للدين (النقي) وبين البروتستانت الذين كانوا أيضا يرون الشيء نفسه (حماة المسيحية على أرض الله)!
من المجازر المروعة التي حدثت في القرون السادس والسابع والثامن عشر في أوروبا ويشير لها الباحث القدير هاشم صالح في كتابه (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا، دار الساقي، 2010 ص66-70) مجزرة براغ حيث أغلق مطرانها الكاثوليكي كنيسة البروتستانت التشيكيين بحجة أنهم (هراطقة) وقبل أن تحصل أي حرب بين الطرفين كان كل طرف يأمر جنوده بأداء صلواتهم التي تميزهم طائفيا عن الآخر، فالحرب كانت مقدسة ومشروعة باسم الدين.
والشيء نفسه حدث في مجزرة سانت بارتيليمي في القرن السادس عشر في فرنسا حيث دعا عدد من زعماء البروتستانت بحجة حضور زفاف ملكي ثم تم احتجازهم داخل القصر وذبحهم جميعا وحينما انتشر الخبر بدأ الكاثوليك في كل القرى والمدن المحيطة بقتل من يصادفونهم من البروتستانت نساء وأطفالا وشيوخا حتى بلغ عدد القتلى ثلاثين ألف، التي بعدها هنأ البابا غري غوار الثالث عشر ملك فرنسا شعبه لقيامه بها وذلك لاستئصال (طاعون الزندقة) من المملكة الفرنسية الطاهرة، واعتبر هذه المجزرة علامة على عناية الله ورحمته بعباده وأرضه بتخليصهم من الكفرة والزنادقة.
في إنكلترا كان العكس يحصل تماما! فالهراطقة كانوا هم الكاثوليك، والمؤمنون الحقيقيون هم البروتستانت، وراح رجال الدين هناك يصدرون الفتاوى التي تخلع المشروعية اللاهوتية عن الكاثوليك: أي عن اتباع البابا الذي يمثل المسيح الدجال في نظر الطائفة البروتستانتية وكان يكفي أن تذكر اسم البابا أمام أي بروتستانتي حتى (يقشعر بدنه) لأنه مرتبط بالنظام الاستبدادي المطلق، في حين أن البروتستانتية مرتبطة بالحرية ومن المستحيل أن يكون الله في جهة الاستبداد والطغيان! في هذا المناخ تمت وفي العام 1649 إبادة نصف مليون من الأيرلنديين الكاثوليك باعتبارهم مرقة وكفارا وهكذا اضطهد الكاثوليك ولوحقوا وقتلوا كما لوحق البروتستانت في فرنسا، مما يدل وكما يذكر هاشم صالح على أن التعصب الديني واحد في جوهره، سواء جاء من هذه الطائفة أو تلك فقد حرم الكاثوليك في إنجلترا من جميع الوظائف المدنية والعسكرية باستثناء الطب ومنعوا من تعلم عقيدتهم وأغلقت كنائسهم كما منع أي كاثوليكي من امتلاك أي سلاح أو حصان يزيد ثمنه على خمسة جنيهات!
ما الحكمة التي يجب أن نخرج بها ونحن في القرن الواحد والعشرين أي بعد أكثر من 400 سنة على الحضارة الإنسانية بعد كل هذه الحروب المدمرة؟ ألا نسمح لأسبابها أن تنمو وإذا نما بعض من طلحها الفاسد فلنخنقه في مهده ولا نسمح له بالعيش وعلينا أن نتحلى بالجلد والحكمة كما ينادي بها وزير داخليتنا وولي العهد الذي يمتلك خبرة الأسود في دحر الإرهاب والتطرف.
في الداخل يجب أن نقف وقفة رجل شجاع ولكنه موجوع. الشاب الغر ذو السادسة عشر الذي فجر نفسه في القديح إنما هو ضحية جديدة تضاف إلى قائمة الإرهاب لأنه لا يدرك شيئا ولم يعرف خيرا مما تم حشره في رأسه. إذن هي مصانع الداخل التي تفجر الحمم في رؤوس الصغار فيلقونها في وجوهنا لاحقا وحين نملك الشجاعة وعدم الخوف أن يبتزنا أحد في عمق إيماننا العميق أو في كفاءتنا في حماية أهم بقعتين طاهرتين على أرضه وهي المهمة التي شرفنا بها خالقنا.. لحظتها ولحظتها فقط سنمسك بالسحب الكثيرة التي تملأ فضاءنا إرهابا وطائفية وقلاقل سياسية وأمنية ولنتذكر أم الشهيد وخالته زميلتنا في الجزيرة كوثر الأربش جبر الله مصابها حين قالت في إحدى تغريداتها قبل مقتل ابنها بأيام: (تأكد أيها التابع المسكين أنه ليس الله من طلب منك أن تأخذ بثأر منذ ألف عام، إنما شياطينهم هم من يدعونك بلسان الله) سلم لسانك يا كوثر وعوضك الله وعوض الوطن في ضحاياه.