د. فوزية البكر
فكرت كثيرا منذ مصابنا الجلل في كارثة القديح في القطيف في مقولة مارتن لوثر كينغ»
«لسؤال ليس ما إذا كنا سوف نكون المتطرفين، ولكن أي نوع من المتطرفين سوف نكون... إن الأمة والعالم في حاجة ماسة للمتطرفين الخلاق».
تساءلت: هل كان كينغ سيقول مقولته لو عاش ليومنا هذا وشهد أهوال التطرف الإسلامي؟
حين يحيط بنا التطرف من كل جانب كما هو الحال عليه اليوم فيجب فعلا أن نبدأ بطرح أسئلة فعلية ونطالب بإجابات ذات معني تساعدنا علي فهم ما يجري.
والسؤال البسيط والمباشر هنا هو: كيف لطفل لم يتجاوز السادسة عشر مثل القشعمي ان يفكر ويخطط مع آخرين ثم يقبل ان ينتهي ويتقبل بل ويبحث عن الوسيلة التي يمكن ان تفتك به و بأكبر عدد من الأنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق؟
لن نختلف في أن فهمه لهذا التحريم كان باطلا لكن ما الذي خلق منه هذا الإرهابي المدمر؟
لنسال الأسئلة الابتدائية: ما معنى ظاهرة التطرف ومتى تصبح متطرفا؟
تكون متطرفا حين تكون ممارساتك متطرفة وإقصائية ثم تتحول إلى عنيفة وحين نشعر بعدم قدرتك أو صعوبة تقبلك وجود وجهة نظر أخرى، حين تتحزب لوجهة نظرك باعتبارها الأمثل ولا شيء غيرها وحين لا تسمح ولا تقبل بوجود الاختلاف.
(بمن يذكركم ذلك؟؟) وبالطبع حين تتحول إلى العنف في سبيل فرض وجهة نظرك على الآخرين كما تفعل التنظيمات الإسلامية المسلحة اليوم.
نعتقد أن ظاهرة التطرف واضحة ويمكن فهمها لكنها فعليا ليست كذلك :إنها ظاهرة معقدة تشمل معتقدات وقيم ومواقف ومشاعر وإستراتيجيات تتنوع بتنوع المعتقد وكذلك السن والخبرة والمرحلة التي وصل إليها المتطرف. إنها أيضا ذات أبعاد ثقافية واجتماعية وشخصية وعائلية يحسن تفكيكها واحدا واحدا لفهم البشاعة المطلقة التي أدت لتفجير مثل تفجير القديح الظالم.
لماذا يحدث التطرف؟
التفسيرات كثيرة فهناك من يرى بأن الفقر والشعور بالحرمان من الامتيازات التعليمية أو الصحية أو المعيشية مقارنة بالامتيازات التي يحصل عليها آخرون دون وجه حق قد تفسر سقوط بعض الشباب (هذا بلا شك لا ينطبق على ابن لادن ولا على عشرات من شباب العائلات الميسورة في المملكة التي وجدت ضمن الخلايا الإرهابية المتطرفة)..آخرون يتحدثون عن الحاجة إلى تشكيل هوية جماعية لدي المراهقين وإيجاد معنى لوجودهم وبما أن الأنشطة العامة ونشاطات مؤسسات المجتمع غير المدني غير ميسرة بما ينهي الشباب الغرر إلى الاعتقاد بأنه لا بأس من البحث عن أدوار وعن شكل من أشكال المشاركة السياسية حتى بالانضمام لهذه الفئات الانتحارية.
طبعا بلا شك فالكثير من القادة الدينيين يستخدمون قوتهم وهيمنتهم الثقافية والاجتماعية في محاولة لتأجيج ظاهرة التطرف وذلك للحفاظ على امتيازاتهم التي سيفقدونها مع أي تغيير ثقافي يمس المكونات الفلسفية أو الثقافية في البلد ولذا وتماما كما حدث مع القشعمي الذي بلا شك خنقته رغباته الجنسية الفوارة في فترة المراهقة وتم تصريف هذه الطاقة المرعبة بوعود (ممن حوله من مفتين وأئمة) للقاء (حور العين) حتى لو أدى ذلك إفساد الأرض وإشاعة الفوضى التي حرمها الخالق.
و تشير دراسات عديدة إلى أن التطرف بأشكاله العنيفة والمخيفة التي تحيط بنا اليوم هو مخرج عاطفي مناسب لتصريف مشاعر شديدة القوة لدى هؤلاء الناشئة تتعلق بالغضب وعدم الأمن (منذ كانوا صغارا) و والإحساس بالقمع من الكبار والقادة الدينين وضرورة الخضوع لهم وقبولهم كما هو الأمر أيضا مع الساسة والمؤسسات التعليمية والرسمية بما يخلق مشاعر معادية للمجتمعات الإنسانية في مسارها العادي الطبيعي ويؤدي تدريجيا إلى الانتقال إلى المربع المضاد لكل ذلك بتبني العنف المطلق و هو ما يؤدي إلى:
أولا: أن التطرف يؤكد للمتطرف حقه ويبرر له كراهية الذات مما يؤدي إلى الرغبة في التدمير بحيث تتجه مشاعر الانتقام إلى الحياة ذاتها للتخلص منها.
ثانيا: يولد الرغبة في إنهاء هذا الاضطراب والقلق من قبل الشباب بالإقبال على الموت سريعا لحل الموقف الضميري الإنساني المعقد الذي وجدوا أنفسهم فيه خاصة وأن النظام القيمي المحيط بهم في المسجد والأسرة المباشرة والعائلة الكبيرة والمؤسسة الدينية والتعليمية: كلها تمجد هذا الشهيد الذي سيزف إلى الجنة للقاء ربه.
هل تقدم لنا أي من هذه التفسيرات شيئا مقنعا نركن له ويقودنا إلى تلمس بعض الحلول التي تمهد طريقنا جميعا بإذن الله كمسلمين إلى الجنة لكن من غير أن ندمر النظام القائم ونقتل النفس التي حرم الله قتلها؟
نعم. فعالم اليوم المعقد والمتشابك وشبكات التواصل الاجتماعي خلقت مراهقين وشبانا وشابات أكثر تعقيدا مما سبقهم من أجيال ومن ثم فنحن بحاجة إلى مقابلة كافة احتياجاتهم (الشديدة التنوع) بقلب وعقل مفتوح فمنهم من سيكون معلما لكن الآخر قد يكون مغنيا وآخر قد يكون مهندسا لكن آخر قد يكون ممثلا وآخر قد يكون مبدعا إلكترونيا لكن السادس قد يكون مصورا أو فنانا تشكيليا وهكذا.
حياتنا اليوم والمحكومة بشبكة صارمة من التعاليم (الخارجية) أي خارج عقل ونفس الإنسان و تفرض بواسطة مؤسسات خارجية (للالتزام بها وليس بالضرورة لاحترامها) كالهيئة والمؤسسة الرسمية وغيرها لا تتناسب مع عالمنا المعاصر الذي يعيشه هؤلاء الشباب. فراغ البيئة الثقافية والفنية يولد العنف والإحباط وغياب التنوع يولد الحدة والتطرف ويفرض القالب الواحد المدمر.
نحن أيضا دولة كبيرة بها من التنوعات البشرية والجغرافية والطبيعية ما يجعلها من أكثر البلدان غنى عدا أنها تضم بين ظهرانيها أهم بقعتين طاهرتين في العالم في مكة والمدينة بحيث يفرض ذلك دور تاريخي مهم علي المملكة في حماية العالم الإسلامي من التطرف ومن عداوة الشعوب الأخرى للإسلام والمسلمين بإعادة تعريف الإسلام كما أنزل على رسول الله صلوات الله وسلامه لا كما تقول به هذه التفسيرات البشرية المتطرفة وبإعادة تعريف العالم اليوم بالحضارة الإسلامية عن طريق التواصل مع حضارات اليوم باللغة التي تفهمها هذه الحضارات: عبر العلوم والآداب والفنون المختلفة.
تغيير التعليم سواء في مناهجه أو عقليات معلميه التي تحتاج إلى إعادة بناء يتناسب مع المفاهيم الإنسانية العامة ومع متطلبات العيش في عالم اليوم أمر لا مناص منه وأخيراً
تنفيذ ما أكد عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بتجريم كل أشكال الطائفية والمناطقية والمذهبية وإشاعة روح التقبل للمختلف في الذات والآخر وما أثرى هذه الدعوة بما يفرض علينا العودة لها في مقال قادم.