رمضان جريدي العنزي
كلما اتسع منظور الإنسان، وتخلّق بخلق اللين والسماحة، كلما تعمقت إنسانيته، والعكس صحيح، اتساع المنظور، يعني اتساع المعرفة وتعمقها، ومغادرة العزلة التي هي صنو التخلف، ضيق الأفق الذي هو نتاج العزلة، يؤدي إلى الانغلاق والتقوقع على الذات أو الجماعة وعدم رؤية الآخر، أو رؤيته بعين رمداء، بعض الناس يحبس نفسه في إطار ضيّق من عصبيّة قبليّة، أو طائفيّة، أو عنصرية، أو مناطقيّة، أو حزبيّة، فلا يستطيع رؤية الغير، ولا معرفتهم على حقيقتهم، وبالتالي لا يستطيع ولا يقدر على التعامل معهم، إلا من باب الآخر، الغير، المختلف، العزلة دليل التخلف، والخوف، والضعف، وعدم الثقة بالنفس، أو الجماعة، والانفتاح دليل قوّة، الانفتاح الذي نعنيه، ليس الانفتاح اللامحدود، وإنما الانفتاح وفق مفهوم -غاندي- (دع الشبابيك مفتوحة، ولكن احذر أن تقتلعك الريح من جذورك)، كم في حياتنا من مفاهيم نعتقد بصوابها، وهي ليست كذلك؟ القضيّة الجوهرية هنا تكمن في كيفيّة معرفة هذا؟ في كيفيّة التمييز بين عمود الخيمة، وسقف الخيمة، وفي معرفة أن عمود الخيمة ليس هو الذي يحمينا من حر الشمس والبرد والمطر، وإنما سقف الخيمة الذي خُصصت الأعمدة لرفعه، الأعمدة هنا وسيلة، أما سقف الخيمة فغاية، ربما تكون هذه بدهية شديدة الوضوح، ولكن كم هم أولئك الذين يدركونها، ويتصرفون على هديها؟! هل يمكن لإنسان جاهل، منعزل، مُتخلف، لاحظ له من الثقافة، ولا دراية له بالآخرين وشؤونهم ومعارفهم، وغير قادر على التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الجمال والقبح، أن يتوصل إلى معرفة جوهر الأشياء، وأن يتخذ موقفاً سليماً منها؟ من تُراه مُستعداً لقتل الحياة وتدميرها واقتلاع البهاء فيها، سوى معطوب العقل، أو المُبرمج؟ الحياة ليست مأوى لمعطوبي العقل، والمُتخلفين، وجزازي الرؤوس، وهادمي البيوت، وحارقي الزروع، ومبيدي الأحلام؟! الحياة للصالحين، والرحماء، والعارفين، والهادين، والمهديين، والمتواضعين، والسمحين، والعاملين، والفاعلين، وليست لغلاظ القلوب، والأجلاف، والقساة، والقتلة، ومُجتزي الرؤوس دون أن يرمش لهم جفن، المُحرفون لما أحل الله، والمقبحون للحياة! الجاهل يُسيء، ربما من حيث يظن أنه ينفع، العارف لا يسيء إلا وهو عارف أنه يُسيء، الإنسان بشكل عام، والمثقف بشكل خاص، ليس له خيار، وليس من حقه اتخاذ موقف الحياد عندما يتعلق الأمر بحق الناس الفطري والطبيعي بالحياة، وحقم الذي لا جدال فيه في اتخاذهم للموقف الذي يرونه مناسباً لهم، ليس المهم أن أعترف أنا أو أنت بصواب هذا الموقف أو خطأه، فأنا وأنت ليس هم، وإذا كان من حقي ومن حقك تبيان وإيضاح الموقف الذي أراه أو تراه أصوب وأسلم، فإن ليس من حق أحد إجبار أحد على اتخاذ موقف ما، أو التصديق بموقف ما، تلك القيمة العليا التي دعى إليها الإسلام، وناضل وكافح من أجلها المصلحون الربانيون عبر مراحل التأريخ كله، من يُهادن في أحقية اتساع المنظور، والأحقية بالحياة النظيفة، يُهادن في قضية الإنسان ذاته، وعندما يسلب من الإنسان حرية الاختيار والتفكير والمنظور والتصديق تجعله أقرب إلى البهيمة منه إلى البشر، لا شيء في ديننا يبيح قتل الحياة وتقبيحها وهدمها ووأدها، لكن هناك أشياء كثيرة في ديننا تبيح إحياء الحياة نموها ازدهارها وبناءها.