عبدالعزيز السماري
ارتبط مصطلح الفحولة في الثقافية العربية بالشعر العربي، ويعد من أشهر مصطلحات النقد العربي القديم، فقد سئل يوماً الأصمعي صاحب «فحولة الشعراء» عن الشاعر الفحل فأجاب: «هو من له مزيَّة على غيره كمزية الفحل على الحقِاق، وفي حكمه على عدي بن زيد» ليس بفحل ولا أنثى، والشعراء الفحول هم الذكور الذين غلبوا بالهجاء من هجاهم، مثل جرير والفرزدق وأشباههما.
كذلك كل من عارض شاعراً فغُلِّب عليه فهو فحل مثل علقمة بن عبدة، وفي العصر الحديث خرجت موجات حداثية تتحدث عن محاولات تأنيث القصيدة، وعن المحاولات الأنثوية لتهشيم العمود الشعري، وهو عمود مذكر ويرمز للفحولة الذكورية، لكنها لم تتجاوز ذلك الفصل المحدود إلى الوصول إلى جذور وأعماق الفحولة الذكورية عند العرب، وإلى استبداد السمات الذكورية الطاغية بالحياة العامة.
تكراراً ما أتساءل عن سر اختزالها في نقد الشعر العربي، بينما تكاد تستبد بمختلف أوجه الثقافة العربية، بدءاً من تولعهم بالخيل كرمز للقوة والجمال، إلى عشقهم الجنوني للسلطة، والتي يظهر في صور تكاد تصل إلى حالة التسمم، ولعل أهم مثال على الفحولة الذكورية سلوك الأب في العائلة العربية، فهو الغالب والمستبد والذي يحكم مختلف الأحوال عائلته بالقوة الفطرية الطاغية، ولعل ذلك نابع من تحمله للمسؤولية كاملة، وغياب دور المرأة في تحمل المسؤوليات، مما يعني استفراده العضلي والاجتماعي بالأسرة.
الفحولة لغة الاتصاف بالكرم والغلبة والنبل، ومن أجل التمتع بتلك السمات إلى أقصى حدودها لا يقبل عادة الفحل أن يلتزم بقانون أو أن يخضع لسلطة تشريعية، لذلك كان العربي القديم يعشق حياة البداوة المتحررة من التشريعات من أجل التمتع المطلق بالطبيعة، لكن ما اختلف في هذا العصر عن الماضي القديم هو دخول مفاهيم الدولة العصرية وقوانين الإدارة الحديثة في الحياة اليومية للإنسان، والميل نحو تطبيق أنظمة الحوكمة والمؤسسات والشركات، وتقوم فلسفة العمل الإداري الحديث على القيام بوظائف إدارية عصرية لها مقدمات ومخرجات وتحكمها قوانين وأنظمة.
في ظل هذا التحول يغيب الباحث والناقد في عالم الإدارة عن المشهد، وعن القيام بدور المراقب للسلوك الفحولي عند الرجل حين ينتقل من منزله إلى المكتب، وهل يستبدل في ساعات فحولته الذكورية الطاغية في المنزل بالموضوعية وتحكيم الأنظمة واحترام حقوق الموظفين في المكتب، أم أنه بلا وعي يتحول إلى فحل إداري له الغلبة والتميز في كل شيء، ولو وصل الأمر إلى إجهاض حقوق موظفيه وضرب قوانين المؤسسة بعرض الحائط.
من أسباب انتقال الثقافة الذكورية الطاغية إلى المكتب، هو غياب الرقابة القضائية على الأداء الإداري الوظيفي، وعلى درجة احترام الإداري المسؤول للأنظمة، ورصد المخالفات الإدارية غير النظامية، وهناك من التجارب والأمثلة الإدارية والاجتماعية ما يصعب حصرها في هذه العجالة، كان فيها تسلط إداري مخيف، قد يصل إلى حد العنصرية حسب مفاهيمها الحديثة، وكان فيها ممارسة فحولية فجة، تصل إلى مخالفة الأنظمة الإدارية عن قصد وسبق إصرار، وكأنه يقول إذا لم يعجبك أضرب رأسك بالحائط.
كذلك تساهم الثقافة الاجتماعية التي تقوم على المحسوبية على طغيان هذا السلوك في حياة الإدارة، ودائماً ما يقوم الإداري بالنشاط الاجتماعي وحملة العلاقات العامه، لحماية آثار استفراده المطلق بالمكتب الإداري، وما أحاول أن أصل إليه هو الدعوة لمراقبة السلوك الفحولي في الإدارة، والذي يبرز عندما تغيب المحاسبة، وفي ظل التطور المعرفي الحديث نحتاج إلى تطبيق أساليب النقد والبحث عن السمات السائده في هذا الجانب الحيوي، كما هو الحال في الأدب، من خلال التفتيش عن مظاهر الفحولة في عالم الإدارة ثم فضحها أمام المجتمع، وذلك لما لها من آثار سلبية طاغية على الأداء الوظيفي وعلى الإنتاجية.
لعل الفرق في الفحولة في الشعر عنها في الإدارة، أن الشاعر القديم كان يفتخر بفحولته، بينما يختبئ الإداري الفحل خلف المكتب الحديث والمصطلحات الإدارية الحديثة، لكنه يتعامل مع المكتب على أنه حظيرته الخاصة، وله أن يمارس تسلط إدارياً أقرب إلى سلوك الثور الهائج في حظيرته، لذلك أناشد هيئة الرقابة والتحقيق بفتح فصل جديد في مراقبة المسؤولين الذين يمارسون التسلط والتعسف الإداري في مكاتبهم، والذين يخالفون أنظمة الدولة وقوانين المؤسسات والشركات.. والله على ما أقول شهيد.