د. حمزة السالم
لم نضع الغرض العام لسعودة التعليم، فحققنا الهدف على حساب الجودة. وفي زراعة القمح كان الغرض واضحا -وإن تبين لنا خطأه- وهو تحقيق الأمن الغذائي. فحققنا هدف الاكتفاء الذاتي من القمح على حساب الكلفة، والكلفة هي المرآة العاكسة للجودة. ففي كلا الحالين كانت الجودة هي ثمن تحقيق الهدف!. وهل تخرج الانتاجية والتنافسية -التي نتغنى بها في استراتيجياتنا- من رحم غير رحم الجودة والكفاءة؟ وأنى للجودة والكفاءة أن تتحقق ونحن نقيس نجاحنا في معدل التوظيف بالكم والكيف لا ببناء العقل والمهارة السعودية.
واليوم وكأننا لا نشعر بهول خطأ سعودة التعليم، فها نحن نكرر نفس الخطأ بالضبط، فلم نحدد الغرض من سعودة سوق العمل. وركضنا وراء تحقيق الهدف، دون معرفة الغرض من ذلك. فإن كانت المدرسة هي مصنع العقول والاستاذ هو عاملها الانتاجي البشري الذي سينتج العقول السعودية، فإن السوق هو مصنع الخبرات والعامل فيها اليوم هو من سينتج الخبرات للاجيال العاملة مستقبلا. ووالله لقد رأيت دكاترة شباب كالبدور متخرجين من أرقى الجامعات الأمريكية، رأيتهم وهم يغرقون في ضحضاح معرفة تخصصية بهم بعد أن أفقدهم السوق علومهم المكتسبة، وسلبهم فطرهم الأصلية. فالسوق أعظم وأقوى من الفرد، فهي تسحبه معها، وإلا لفظته خارجها. فسوقنا تدفع الذكي المجتهد للبلادة وإن كان خريج أرقى المدارس والمعاهد للبلادة وتضيع ثمرات التدريس والتدريب. فنحن نتعامل ضمن سوق عمالية مشوهة بالشللية والمصلحية قد غاب دورها في تقييم الجيد من الردئ. ولن نتسطيع حلها بعصا السلطان لا بمواعظ الوعاظ، ولا بخطط السعودة كضمان اجتماعي، فالسوق أقوى والانتاجية هي الغالبة ولو دفعنا ثمن تغطية كلفة تدنيها اليوم.
- وبما أن الكم لا الكيف هو المقياس المعتبر في عقولنا مهما ادعينا غير ذلك، فياليتنا على الأقل نضبط في عد الأرقام، فلا نخلط بين الخانات والأصناف. فالمفهوم الاقتصادي التخصصي الدقيق للبطالة يعود إلى البطالة التي تهتم بها السياسات الاقتصادية، المالية والنقدية. وعلى هذا، فمعدل البطالة السعودي الذي هو من المسئوليات المباشرة للسياسات الاقتصادية قد لا يتجاوز الصفر.
فمعدل البطالة يتكون من جزئين: الأول، البطالة التي تحدث بسبب الدورات الاقتصادية، وبلادنا ليست في دورة اقتصادية انحسارية، والوظائف المتوفرة في اقتصادنا تحتاج لاضعاف مضاعفة من القوة العاملة السعودية. والجزء الثاني المكون لمعدل البطالة هو معدل البطالة الطبيعية، الذي تحدثت عنها في المقال السابق. والسياسات الاقتصادية لا تعنى بالبطالة الطبيعية، لأن البطالة الطبيعية نتيجة لسلوك الفرد ذاته أو نتيجة التغيرات الحتمية لأي مجتمع اقتصادي يتطور، كالتغيرات التي حدثت لنا بسبب النفط.
) فعدم توافر المهارات اللازمة للسعودي هو السبب الظاهر للبطالة عندنا، وهذا يقع في نطاق البطالة الطبيعية. فالبطالة اليوم عندنا، ليست بمشكلة اقتصادية بل هي مشكلة تخطيطية اجتماعية تعليمية ثقافية، وإن كان أصل سبب المشكلة سبب اقتصادي محض، وهو النقلة الحضارية النفطية التي سببت تطورا حتميا كبيرا في المجتمع الاقتصادي السعودي. فأهمل المجتمع كله مشكلة البطالة ولم يدرك مفاهيمها ليتسنى له وضع أفضل الطرق لعلاجها.
) فالبطالة عندنا نتيجة لسلوك طبيعي للسوق السعودية التي لا تثق في مهارات السعودي لأداء العمل. وأنا وأنت، نحن البطالة المقنعة التي خلقت هذا الوضع وتعاملت معه. فلا أنا أثق بمقدرتك ولا أنت تثق بي، وكلانا على صواب وكلانا الضحية والجزار. فما أصعب ولا أعقد تشابكا من المشكلة الاجتماعية، ولذا فكل رأي أو خطة تخرج عن السلوك الإنساني أو عن قوانين السوق فهي خطة ستقود بالمجتمع إلى مشكلة معقدة متشابكة، تكلف البلاد والعباد ثروات تهدر لأجيال قادمة. فالسوق لا يُفرض عليه أمر إلا لفترة قصيرة وبكلفة عالية وبخلق آثار سلبية جانبية.
) يجب أن ندرك أن الاستراتيجية الكلية الشاملة هي كمواد القانون، فكل استراتيجية أو خطة دونها، يجب أن تكون تبعا لها لا محايدة عنها فضلا على أن تكون معارضة لها. ولذا، فيجب ان تُبنى استراتيجيات السعودة كفرع مُفسر للاستراتيجيات الكلية التي ترمي للانتاجية والتنافسية، لا كفرع من متعلقات خطط الضمان الاجتماعي.
) والاختلاف في تحديد معدل البطالة ظهر ليكشف لنا عدم إدراكنا للغرض من استراتيجية السعودة أهي توظيف أم قضاء على البطالة أم أن كلاهما شيئا واحدا؟ وتصرفنا تجاهه، يفسر على أنه الاستمرار في تضخيم وتأصيل البطالة المقنعة في السوق العمالية السعودية. وبما أن هذا واقعنا وبما أن الاستراتيجيات العليا تنص على الانتاجية والتنافسية وهي عكس خطط السعودة، فلهذا فإنه يجب علينا أن نفرق نظاميا، فنعزل استراتيجيات التوظيف عن حلول البطالة.
) وكثير من مشاكلنا الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية سببها يدور حول عدم فعالية السوق التقييمية. فأي حل للتوظيف يجب أن يكون هدفه وضابطه هو الجودة. ولا مجال لتحقيق الجودة الا بوضع حلول تساعد على بث الحياة للرقابة السوقية الطبيعية للجودة مما سيدفع السوق ليقوم بدوره في فرض السعودي فطريا وطبيعيا لا فرضا بالسلطة. فكل ما يفرض بالسلطة على السوق، مكلف بالطبيعة وغير فعّال ويخلق أضرارا جانبية كثيرة.
) فمن الحلول لإحياء الدور الطبيعي الرقابي للسوق، مثلا: بذل الجهد والمال في صناعة اختبارات تقييم قدرات عامة وتخصصية ابتدائية، جدية تشرف عليها سلطة حكومية صارمة. فمتى خرجت هذه التقييمات وأثبتت نجاحها، اطمئن لها صاحب المال الخاص، فحرص على توظيفه واستجلابه بأجر أعلى من السوق بعد أن زالت عنه مخاطرة المغامرة مع بليد يحمل الشهادات بلا فهم أو يحمل الخبرات بلا خبرة إلا خبرات المداهنة والمسايرة. كما أصبحت هذه التقييمات دلائل لجهات المراقبة والمحاسبة في التوظيف في القطاع العام والشركات العامة، فتكون عاملا مؤثرا في قطع المحسوبيات والواسطات في التوظيف. كما أن الاختبارات الدورية ستصبح ضابط الصيانة والترقيات، لا مهزلة التقييمات الصورية التي تقوم بها بعض الجهات اليوم. فلو كان هناك تقييم حقيقي لما رأينا المهازل الشاملة التي تمر على قطاعات كاملة دون أن يدركها أحد. ومع مرور الزمن يتعود الناس عليها فتصبح ثقافة لهم فتنعكس سلوك السوق على التوظيف بموجبها.
) الانسان هو الدافع للعلوم كلها ولدراساتها وسياساتها وتطبيقاتها. والانسان هو العامل الأهم والمحدود في عملية الانتاج. والإنسان هو الذي يستهلك الانتاج جميعا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فإن كان الانتاج واستهلاكه هو الذي جعل من الانسان هو الغرض من علم الاقتصاد، والنفط قد تكفل بالانتاج وبالاستهلاك، (فلا مجال للاقتصاد فيه)، إلا أن حتمية عمل الإنسان جعلت البطالة غرضا للعلوم كلها. فالإنسان يجب أن يعمل، فالعاطل عن العمل سواء أكان غنيا أم فقيرا هو خطر على نفسه وعلى المجتمع. فكم من مشاكل ومصائب أمنية وصحية ونفسية واجتماعية ودينية، وعائلية لو تتبعنا جذورها لوجدنا البطالة، حقيقية كانت أم مقنعة، هي سببها. والبطالة المقنعة قد تكون أشد خطرا وأشد تخفيا وأصعب حلا، من البطالة الصورية العددية، فلنتحلى بالعزم على حلها، ولتصغر في أعيننا تحدياتها، فعلى قدر أهل العزم تأت العزائم، وتعظم في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم.