د. حمزة السالم
البنوك مُخصصة عندنا منذ عقود قديمة، وهي تقريبا بالمقارنة العالمية تكاد أن تكون عديمة الإنتاجية والإبداعية والمسئولية الاقتصادية والاجتماعية. والعجيب أنها تزعم مساعدة الدولة في الدين العام، والعكس هو الصحيح. فلولا اقتراض الدولة منها لتوقفت عن العمل في تلك الفترة. ثم هل رأيت تاجرا يخسر وهو يبيع سلعا لا يدفع ثمنها؟ نعم بنوكنا هي ذلك التاجر بحجة تحريم الفوائد من جانب واحد، وبنظام الربط في الريال الذي يضمن لها الفائدة. ولهذا فالبنوك ليس لها حوافز للتطور والتعلم فلديها دافع الربح وليس عليها ضابط الخسارة أو المسئولية. وشاهد هذا لو قارنها ببعض شبيهاتها الحكومية كصندوق التنمية الصناعي والتأمينات الاجتماعية. فكم من مشاكل اقتصادية تسببت بها بنوكنا؟ ألم تكن هي السبب الأساسي في تضخم الأسهم وانهيار السوق. أليس لها دور في الاكتتابات والضمانات فتضيع حق الناس وتنزع الثقة في السوق.
«هناك أوهام عريضة ومفاهيم خاطئة حول القطاع الخاص، وقدراته الإنتاجية. فالقطاع الخاص وسيلة كما القطاع العام وسيلة، والسوق هو الميدان والإنتاج الطريدة. فيجب أولا أن نعرف الفطرة التي تحكم سلوك القطاع الخاص والعام والقوانين الطبيعية التي تحكم السوق والإنتاج ثم بعد ذلك نحدد ماذا نريد ثم نضع الضوابط باستخدام الفطرة وإتباع القوانين. فالإنسان مفطور على الظلم وعلى حب الخير لنفسه والسوق ما هو إلا مجموعة قوانين من خرج عنها كان ذلك على حساب نتاجه.
- فمنذ أكثر من عقد من الزمن، تناقلت الصحف ووسائل الإعلام الأهداف الثمانية للتخصيص تحكي هذه الأوهام وتكشف عن هذه المفاهيم الخاطئة. فهناك أهداف تصور التخصيص وكأنه غنيمة سيتقاسمها القطاع الخاص والحكومة، أوكأنها ترمي إلى أن التخصيص إنما هو لفرض ضرائب غير مباشرة. فمثلا، الهدف الذي ينص على تخفيف الكلفة على المواطنين، يعني عدم ربحية الدولة وهذا متعارض مع أهداف تدل على وجود غرض ربحية الدولة بدوافع مالية محضة للدولة مباشرة لا عن طريق عوائد الإنتاج العام.
«والأهداف الربحية متعارضة كذلك مع الهدف الأساسي لتمليك المواطنين عن طريق الأسهم وتجريده من أهدافه الخاصة به. فالغرض الأساسي من تمليك المواطنين هو خلق روح الانتماء للوطن وخلق روح الرقابة الاجتماعية على القطاعات المخصصة، لحرص الأفراد على ملكيتهم، فيظهر أي فساد مختفي (كما نرى مثلا في حالات شكاوي المواطنين الملاك بعض الشركات في سوق الأسهم).
«وهناك أهداف تجمع بين المتناقضات، كهدف رفع كفاءة الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته التنافسية مع هدف «زيادة فرص العمل والتشغيل الأمثل للقوى الوطنية العامل» فالهدف الأول يعني انعدام البطالة المقنعة. والربحية لازمها الكفاءة الإنتاجية وهي ستسبب زيادة البطالة لا زيادة التوظيف. فالمفترض أن يكون هذا نتيجة لهدف تحقيق التنافسية ما أمكن التي ستنتج إبداع خلاق لإيجاد نمو مستدام في تطوير مجالات العمل، مما يسبب زيادة فرص العمل.
«وهناك أهداف بنيت على تقريرات مسبقة بينما هي محل البحث والخطر كتقرير بأن القطاع الخاص سيحقق بلا شك الربحية ويرفع الإنتاجية !! بينما هو وسيلة ومحل الخطر.
«والسبب في هذا هو عدم تحديد الدافع للتخصيص وغرضه العام والقواعد الضابطة الأساسية.
«فالدافع للتخصيص هو أن القطاع العام لا يسمح بالتمثيل الكامل لحقيقة فطرة الإنسان التي تدفع الشر عن نفسها، تحب الخير لنفسها، والتي تدفعه للاجتهاد لتحقيق الثاني وتجنيب الأول.
«فالقطاع العام لا يشارك في أرباح الانجازات والإبداعات، وخاصة في البلاد التي يكثر فيها المحسوبيات، كالعائلة والقبيلة. ولو وضعنا برنامج لمشاركة العاملين في القطاع العام في الأرباح فإنه تبقى إشكالية عدم وجود المشاركة في الخسارة، مما يدفع روح المغامرة والمقامرة في أملاك الدولة من أجل تحقيق الأرباح. وأهم الوسائل لحل هذه الإشكالية هو تملك العاملين، وهذا أمر ممتنع في كثير من قطاعات التخصيص، سواء أكان حقيقة كامتلاك المباني والمعدات أو افتراضيا كثبات حق الامتياز أو طول مدته.
«والقطاع الخاص يحكمه الربح. والخير قد تحققه نفس الإنسان بأفعال إيجابية بناءة كالحرص على الجودة بسبب التنافسية مثلا، فالربح لها بالتالي هو رفع كفاءة الإنتاجية، وتجنيبها الخسارة هو فقدان ثقة الزبون. وقد يتحقق الربح بالفساد فيكون بتعظيم الأرباح ابتداء لكي تغطي كلفة الخسارة انتهاء، كالإهمال بالجودة بوسائل سلبية هدامة كالفساد وتلفيق العمل، لتخفيف الكلفة وبالتالي تعظيم الأرباح لتغطي خسارة فقدان الزبون لاحقا.
«وبما أن الخيار الأول يحتاج لصبر وزمن، وبما أن نفس الإنسان قد جبلت على حب استعجال الخير، فخيار الفساد والتدليس هو الخيار الأول الغالب على السلوك الإنساني وبما أن القطاع العام لا يمكن أن يمثل فطرة الإنسان تمثيلا كاملا في إيثارها بالخير لنفس وحرصها على تقديم تجنيب نفسها الشر فلهذا نظرت الدول لخيار التخصيص، لا للقطاع الخاص. فإشكالية القطاع الخاص هو تعمق هذه الفطرة الإنسانية في استعجاله لحب الخير مما يدفعه لخيار الفساد والربح السريع.
«والغرض العام من التخصيص يختلف باختلاف الدول. فهناك دول غرضها الأول هو فرض ضرائب أكثر وتحويل المباشرة منها إلى ضرائب غير مباشرة عن طريق دفع الرسوم للشركات العاملة، وتحتج لطرحها بأن هذا يؤدي لعدم الإسراف ورفع الإنتاجية، فترى أن التخصيص وسيلة مناسبة لذلك. وهناك حكومات (كبعض الدول الخارجة من الاشتراكية) كان غرضها الأول هو نهب خيرات بلادهم فتلاعبت بعقول شعوبها وانبهارهم بالغرب فرفعت دعوى التخصيص، مسلمة القطاع الخاص لفطرته الطبيعية فانتهب البلاد، والشرط أربعون.
«وأن أجزم بأن الغرض العام للتخصيص في بلادنا - والذي يشهد له مشاريع الابتعاث والتعليم - هو رفع الإنتاجية للمستوى الأمثل وتحقيق المعرفة. فتحقيق هذا الغرض لا يكون إلا بتحقق هدف التنافسية والتنافسية تنتج الإبداعية والإبداعية تخلق مجالات جديدة توفر فرص عمل جديدة فمتى تم ذلك كله تحققت الثروة للحكومة وللمجتمع. فالتنافسية هدف لتحقيق الغرض العام، وعلى هذا فقس وضع الأهداف.
«فبإدراك الداعي وتحديد الغرض نستطيع بعد ذلك وضع الأهداف. فنستطيع اختيار الوسيلة المناسبة لتحقيق الأهداف. فوسائل التخصيص كثيرة على حسب ما يناسبها، كوسيلة إدخال نظام مكافآت في القطاع العام، أو كاختيار نموذج شبه حكومي كالتأمينات، أو نموذج خاص بالكامل، أو كنموذج حكومي بإشراف خاص أو نموذج حكومي مع عقود إمدادية خدمية أو تموينية خارجية خاصة، وهكذا. وأمكننا بعد ذلك بطريقة مبنية على تصور واضح، من تعيين القطاعات الأمثل للتخصيص (كالمياه وكتصنيع السلاح وكالطب إلى آخر الأعمال الإنتاجية). وأمكننا كذلك من اختيار أفضل الطرق للتخصيص (BOT , BBO,LBO وهكذا).
«وبمعرفتنا بداعي التخصيص نستطيع وضع قواعد الضوابط. وحد الضوابط العامة هي الضوابط الطبيعية التي يمكن فرضها مجانا بقوة السوق وبالسلوك البشري الفردي والاجتماعي. كقاعدة اعتبار قوى السوق الطبيعية (كضابط التنافسية) وقاعدة اعتبار القوة الاجتماعية البشرية. (كتمليك الأفراد أسهم المشاريع والخدمات).
«إن كان الغرب الديمقراطي لم يسلم من فساد عمالقة القطاع الخاص والذي سيطر على جماعات الضغط، فلماذا «نحن غير» فتوهم الخصوصية في البشرية فنتوقع نجاح التخصيص عندنا ونحن الذين جعلنا تعظيم القطاع الخاص هدفا للتخصيص لا وسيلة من الوسائل إليه؟ كيف والتصور العام والاستراتيجيات قد غلب عليها وهم القطاع الخاص فلم تميز أساسا بين الأهداف والوسائل. كيف ونحن لا ندري لماذا نُخصص وما هو غرضنا الأساسي من التخصيص. فالله الله لا نقع في فخاخ أوهام القطاع الخاص، ولنجعله وسيلة للتخصيص لا هدفا له.