د. محمد عبدالله الخازم
خمسة وزراء صحة - بمن فيهم الوزير الحالي- لم يجدوا حلاً نهائياً لموضوع دوام المراكز الصحية. وربما قبلهم وزراء آخرون لا أتذكر محاولاتهم في هذا الشأن. أو بالأصح لم يقنعوا بعض إداريي وزارة الصحة بإبعاد هذا الملف من على طاولاتهم. إنه أمر محزن بالنسبة لي حينما أتطلع إلى تغييرات جذرية في الخدمات الصحية فأجد أول المشاريع على طاولة كل وزير يأتي هو موضوع دوام المراكز الصحية. أتدرون لماذا يحدث ذلك؟
لقد أشرت إليه ضمناً في مقالي السابق. إنه نفس الفريق البيروقراطي الذي يتواجد في وزارة الصحة منذ زمن طويل، يتغيّر الوزراء وهو صامد محله. يجيد تشتيت ذهن أي وزير جديد بوضعه أمام قضايا صغيرة تشغله، مثل قضية دوام المراكز الصحية، مستخدمين نفس (التكتيك) البيروقراطي المعهود منهم. يتكرر الموال وكأنها بالونات اختبار لكل مسؤول جديد؛ يشغلونه بالملفات المستهلكة ويشعرونه بأنها أم القضايا بوزارة الصحة. سيكون هناك ملف إعلامي حول القضية وسيكون هناك عمل لإدارة الإحصاء لدراسة البيانات وسيكون هناك اجتماعات لإدارات الرعاية الأولية وشؤون الموظفين ومسؤولي تقنية المعلومات وسيعرض الموضوع بمجلس الوزارة التنفيذي وهكذا دوامة بيروقراطية لا يجيد خلقها سوى هؤلاء البيروقراطيين بوزارة الصحة، بل وسيأخذ الموضوع حيز هذا المقال، الذي ربما كان الأولى به طرق مواضيع أخرى.
ما يجعلني أعتقد أنه القضية يعيد إصدارها الفكر البيروقراطي المعمر بوزارة الصحة، هو أنها تعاد بنفس المنطلقات والمبررات. نفس المفهوم المكرر في نظرتهم لمراكز الرعاية الأولية باعتبارها كأقسام الطوارئ. بمعنى آخر لديهم مفهوم - مغلوط - لمركز الرعاية الأولية بأنه مشرع الأبواب يستقبل المريض دون ترتيب أو موعد مسبق وعليه يجب أن يكون مفتوحاً أطول فترة ممكنة بانتظار المواطن الذي يمرض أو يخطر بباله زيارة المركز مساء. نفس الديباجات المستهلكة ومنها خدمة المواطن واعتباره يشكل حجر الزاوية في العمل الصحي. وأصفها بالمستهلكة حينما تصبح ديباجة نكررها مع كل قرار دون أن يصحبها عمل نوعي متميز وبالتالي تفقد قيمتها ويجعل المواطن يفقد الثقة في قائليها. تغيير الدوام لا علاقة له بجودة الخدمة المقدمة للمواطن في مراكز الرعاية الأولية، بل إنه في ظل عدم رضا الموظفين سيسوء مستوى الخدمة. إلا إذا كان الهدف هو مجرد الحصول على بدل نقل أو خارج دوام زهيد مقابل العمل المسائي، فالقضية هنا تصبح مصلحة بعض الموظفين المادية!
تصوروا، لو سألت البلديات ومكاتب العمل والجوازات وغيرها من القطاعات المواطنين، هل تفضّلون أن نقدّم لكم خدمتنا في المساء؟ بالتأكيد الإجابة ستكون نعم. هذه هي الخدعة التي تسميها وزارة الصحة استفتاء للمواطنين ووضعتها على موقعها الإلكتروني وكأنها تريد الوصول إلى نتيجة محددة سلفاً!
لم أكن متحمساً للتطرق لهذا الموضوع ثانيةً ولا أكتب هنا عن تفاصيل القرار وعلاقته بنظام العمل وبهيكل المنظومة الصحية، فذلك أمر يطول. لكنه يبعث على الاستغراب إعادة فتح هذا الملف مع كل وزير صحة جديد وكأنه أهم أولويات الصحة. وأكون أكثر صراحة؛ أصبحت أتوجس من بعض البيروقراطيين الذين يبذلون جهدهم لينساق المسؤول الجديد لأجنداتهم المختلفة، بما فيها إعادة ملفات تم إقفالها من قبل وزراء سابقين. وهذا الملف تحديداً تم إقفاله آخر مرة من قبل خبير العمل والصحة، معالي الوزير الأسبق، فلماذا يعاد فتحه مع تولي الوزير الجديد للصحة؟
اتركوا الفرصة للوزير الجديد ليضع رؤاه وخططه الحديثة، وتوقفوا عن عادتكم تشتيت ذهن المسؤول الجديد بتدوير الملفات المستهلكة والهامشية...