نجيب الخنيزي
المفكر الإيراني الشهير الدكتور علي شريعتي ( 1933- 1977) الذي وجد مقتولا في لندن قبل سقوط نظام الشاه بعامين ووجهت أصابع الاتهام لجهاز المخابرات الإيرانية ( السافاك) آنذاك باغتياله، كان يعد بحق احد منظري الثورة التي انتصرت في عام 1979، غير أن النظام الجديد وخصوصا الاتجاه المحافظ المتنفذ في السلطة والمؤسسة الدينية سعى عمليا إلى تحجيم تأثيره الفكري وتجاهل أطروحاته المثيرة للجدل، المبثوثة في العديد من كتبه ودراساته وخطبه والتي من بينها محاضراته و خطبه الجريئة التي ألقاها في حسينية الإرشاد التي أسسها في طهران في عام 1969، وتم اعتقاله على خلفيتها مع بعض من طلابه إثر إغلاقها في عام 1973م من قبل السلطات.
وعلى خلاف الموقف السلبي والرافض لأطروحاته من قبل السلطات الرسمية والمؤسسة الدينية الشيعية التقليدية في الآن معاً، لاقت أفكاره رواجاً كبيراً بين صفوف الشباب و طلاب الجامعة والطبقة الوسطى الذين قاموا بالدور الحاسم لإسقاط الشاه، غير أنه جرى الاستئثار بالسلطة من قبل التيار الديني بعد تحجيم وتصفية المكونات الوطنية والليبرالية واليسارية كافة، وبما في ذلك ما عرف باليسار الديني.
مع كون شريعتي فارسياً وشيعياً غير انه كان متحرراً من المذهبية الضيقة والجامدة ومتفتحا على المذاهب الإسلامية، والمناهج الغربية الحديثة، وقد وجه نقدا مريرا للنظام الصفوي الحاكم وللمؤسسة الدينية الشيعية المرتبطة به في العديد من مؤلفاته وخطبه، وهو ما جعله موضع رفض وهجوم من قبلهما على حد سواء.
أصدر علي شريعتي مؤلفات ودراسات عديدة نذكر من بينها التشيع العلوي والتشيع الصفوي».
أود التطرق هنا إلى موضوعات مهمة طرحها في كتابه «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» وكأنه يستشرف آفاق وصيرورة الثورة الإيرانية لاحقاً، والتي مفادها تحول الحركة إلى نظام حيث يقول: إنه تظهر أحياناً في المجتمع حركة تحمل أفكاراً وعقائد وتطلعات عادة ما يكون وراءها عناصر شابة تنشط في التحرك وتميل إلى التغيير والتجديد. و يوظف أتباع الحركة أو النهضة كل حركاتهم وأفكارهم لخدمة الهدف الذي يصبون إلى تحقيقه، ويجعلون كل شيء بمنزلة الوسيلة إلى تحقق ذلك الهدف الذي قامت النهضة من أجل الوصول إليه، ولكن هذه النهضة بمجرد وصولها إلى حد معين، واصطدامها بعراقيل وموانع ذاتية أو خارجية تبدأ بالتوقف والجمود وتنسلخ عن طابعها الحركي التغييري، وها هنا تبدأ الأزمة.
ولتعميق فكرته تطرق إلى واقع الشيعة في إيران قبل وبعد قيام الدولة الصفوية، حيث تحولوا من جماعة منبوذة ومقموعة ومحاصرة في أداء طقوسها إلى تمتعهم بكامل حريتهم المذهبية تحت رعاية وتشجيع السلطة الجديدة. أما العلماء ورجال الدين الذين كانوا على الدوام في معرض الخطر والمواجهة مع السلطات ويتعرضون لأبشع أنواع الظلم والتنكيل ها هم اليوم معززون مكرمون مرفهون يعيشون في ظروف جيدة للغاية، ويجلسون جنباً إلى جنب السلطان على فراشه الوثير، وقد يستشيرهم في كثير من الأمور المتعلقة بمستقبل البلاد، بل إن السلطان لا يرى لنفسه قدرة وسلطة إلاّ بمقدار ما يخوله رجل الدين بالنيابة عن الإمام صاحب الزمان، ويضيف متهكماً: يا له من انتصار، ومن هذا الموقع العلوي والحافل بالانتصارات بدأت هزيمة التشيع! ومن اللحظة التي زالت فيها جميع الموانع والعراقيل بوجه أداء طقوسه العبادية والمذهبية، وتحول الأعداء إلى أصدقاء ومؤيدين، توقف الشيعي عن الحركة ليتحول إلى وجود اجتماعي غالب وحاكم وجامد وراكد، وها هنا يتجسد بوضوح تبدل الحركة إلى نظام! ويستطرد شريعتي قائلاً: للتشيع حقبتان تاريخيتان بينهما تمام الاختلاف ؛ تبدأ الأولى من القرن الأول الهجري حيث كان التشيع معبّراً عن الإسلام الحركي في مقابل الإسلام الرسمي والحكومي الذي كان يتمثل في المذهب السني، وتمتد هذه الحقبة إلى أوائل العهد الصفوي، حيث تبدأ الحقبة الثانية التي تحول فيها المذهب الشيعي من تشيع حركة ونهضة إلى تشيع حكومة ونظام.
في الواقع أطروحات شريعتي والمتأثرة ببعض النظريات والمناهج الغربية لا تنطبق على سيرورة الواقع الإيراني أو الشيعي في مرحلة تاريخية معينة، أو كما هو حاصل في إيران والعراق في الوقت الحاضر فقط، بل إنه يتمظهر كقانون عام يشمل سيرورة الأديان والمذاهب والأفكار والحركات الثورية والتغييرية والانقلابية على اختلافها في العالم. لنعاين على سبيل المثال مآل الثورات التاريخية الكبرى على مدى أكثر من مائتي عام الماضية، ومن بينها الثورات الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية وغيرها. التساؤل هنا هل تنتهي الحركة عندما تتحول إلى نظام، أم انه من قلب النظام تنبثق بالضرورة حركة تغيير جديدة مناقضة له، تمهد لولادة نظام جديد، تعبيرا عن القانون أو المفهوم الجدلي المعروف لأبدية وحدة وصراع الأضداد؟ وبالتالي هل النظام بوجه عام هو مفهوم ثابت وسرمدي أم أنه أمر محدث قد يفتح الباب للبشرية على احتمالات شتى من بينها الذبول والتلاشي التدريجي لفكرة النظام، عبر التسيير الذاتي للمجتمع من خلال هيئاته وتشكيلاته المتنوعة.