نجيب الخنيزي
أسفرت الانتخابات اليونانية التي أجريت في 25 يناير الفائت عن فوز ساحق لحزب «سيريزا» (تكتل اليسار الراديكالي) وذلك بحصوله على 149 مقعداً في البرلمان الذي يضم 300 عضو، وكان بحاجة إلى مقعدين آخرين فقط ليحكم اليونان بمفرده، ومع أن الحزب الشيوعي اليوناني حصل على 15 مقعداً غير أن زعيم الحزب الشاب أليكسيس تسييراس (كان في شبابه عضواً في اتحاد الشباب الشيوعي) فضل التحالف مع يانوس كامينوس زعيم حزب اليونانيون المستقلون) الذي حصل على 13 مقعداً، ومع أنه ينتمي إلى اليمين الوسطي غير أن هناك مواقف مشتركة بينهما في مناهضة سياسة التقشف وشروط الإنقاذ. نتائج الانتخابات اليونانية كانت بمثابة الزلزال الذي ضرب أوروبا (القارة القديمة) من أقصاها إلى أقصاها فقد خاطب تسييراس (40 سنة) الذي يعد أصغر رئيس وزراء في اليونان الشعب اليوناني بأنه حصل على تفويض واضح ويتعهد «بإنهاء خمس سنوات من الإذلال والألم» بسبب سياسات التقشف المفروضة من قبل البنوك والمصارف في دول الاتحاد الأوروبي والبنوك الدولية كما تعهد بالعمل على مواجهة المشكلات الاقتصادية المزمنة في بلد يعاني 25 % من البطالة ويتجاوز 50 % بين الشباب.
من الواضح أن المستشارة ميركل التي لم تعلق على نتائج الانتخابات اليونانية أصيبت بالاحباط نظرا لتحميلها الكارثة الإنسانية والاقتصادية، وخصوصاً لأن موضوع شطب الدين وإنهاء التقشف الذي طرحه تسييراس يمثل قضية مفصلية لألمانيا وحكومات منطقة اليورو التي تمتلك 60 % من ديون اليونلن المقدرة بحوالي 319 مليار يورو تصل نسبتها إلى 175 % من الناتج الإجمالي.
في حين حذر رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون بأن فوز اليسار الراديكالي المناهض لسياسة التقشف في اليونان «سيزيد القلق الاقتصادي في أوروبا.. وأن على بلاده أن تتمسك حيال هذا الأمر بخططها للحفاظ على أمنها الاقتصادي». على العكس من موقف الحكومات الأوروبية التي تقودها أحزاب «الليبرالية الجديدة» كان اليسار الأوروبي مبتهجاً وقد تجددت آماله في إمكانية تصدره المشهد السياسي الأوروبي وخصوصاً في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وقد علق بابلو إيغليسسياس زعيم حزب (بوديموس) اليساري الإسباني والذي شهد صعوداً لافتاً بين الناخبين الإسبان على فوز شقيقه اليوناني بقوله « أخيراً سيكون لدى اليونانيين حكومة يونانية، لا مندوب عن أنجيلا ميركل «.. في حين هنأ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ألكسيس تسيبراس، زعيم حزب «سيريزا» على الفوز وتعهد بالتعاون معه لدعم سياسة النمو في الاستقرار، كما اعطى فوز الحزب الراديكالي اليوناني أملاً كبيراً للأحزاب اليسارية مثل الحزب الشيوعي الفرنسي وجبهة اليسار للوصول في يوم ما إلى السلطة، وفي إيطاليا، اعتبر وزير الدولة للشؤون الأوروبية ساندرو غوزي، أن فوز «سيريزا» في اليونان يضع أوروبا أمام فرص جديدة لمواصلة التغيير لصالح النمو والاستثمارات ومكافحة البطالة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي دلالات وتأثير الصعود القوي واللافت لليسار اليوناني على الصعيد الأوروبي؟ من الواضح أنه على امتداد العقود الماضية حكمت أحزاب «الليبرالية الجديدة « على اختلاف شعاراتها وتسمياتها، اليمين أو يمين الوسط أو يسار الوسط (الأحزاب الاشتراكية) غير أنها من حيث الجوهر والمضمون تتبنى بوجه عام السياسات الليبرالية الجديدة القائمة على الخصخصة وتصفية القطاع العام واستقالة الدولة عن مهامها ووظائفها الاقتصادية / الاجتماعية، واضعاف البنية الانتاجية الوطنية لصالح العولمة للسوق الغابية، وهو ما أدى إلى تفاقم مشكلات الفقر والبطالة وتدني مداخيل ومستوى حياة العمال والأجراء والطبقة المتوسطة، وتحميلهم نتائج الأزمات الاقتصادية والمالية الدورية للرأسمالية، كل ذلك عمق انعدام الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة المنصاعة لمصالح الشركات والبنوك الكبرى، وإلى تنامي شعور عارم بالاحباط واليأس من إمكانية التغيير، وعلى أرضية الأزمة البنيوية / المركبة التي تعيشها الرأسمالية وغياب البديل تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية والمنظماتلقومية المتطرفة التي تجاهر بالعداء للمهاجرين الأجانب وتحملهم وزر المشكلات الاقتصادية والأمنية، وتنزع للممارسات العنيفة ضدهم كما هو الحال في الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
إزاء الخيار بين السيء والأسوأ اجترحت اليونان الخط الثالث أو بمعنى آخر تشكيل الكتلة التاريخية البديلة، الطامحة نحو تغيير ديمقراطي حقيقي يصب في مصلحة الغالبية من الناس، ويعمل على انتهاج سياسة وطنية مستقلة بعيداً عن هيمنة الاقتصادات الأوروبية الكبرى، والسياسيين الفاسدين واصحاب المصالح والنفوذ، وهو ما انعش الآمال لدى قطاعات واسعة في الدول الأوروبية بأن التغيير والبديل الإنساني ممكن وحتمي بإرادة ووعي الناس.