د. جاسر الحربش
ماذا لو قلت إنها حقيقة علمية يقينية بأن إصابة مراكز معينة في دماغ الإنسان، سواء من كائن مجهري لا يمكن العثور عليه قبل تكبيره عشرات الآلاف من المرات، أو بمادة سمية لا يمكن العثور عليها إلا بالتحاليل المخبرية، أو بورم دماغي لا يكتشف إلا بالأشعة المغناطيسية، ماذا لو قلت إن كل هذه الإصابات المختلفة يمكن أن تحيل المصاب العاقل بنفس الدرجات من الجنون أو الصرع أو الهذيان أو الغيبوبة؟. هل أكون تجاوزت على الرأي السائد التقليدي بأن الجنون ما هو سوى المس المتعارف عليه في الثقافة الموروثة؟. لم يعد من الأسرار أن التعامل مع الأسباب العضوية أو النفسية للجنون بوسائل الطب الحديثة هو أفضل وسائل العلاج.
الفرق بين الفهم القديم والحديث لأمراض الجنون والصرع والهذيان، والاختلاف في التعامل معها، لا يختلف كثيراً عن الفرق بين الفهم القديم والجديد لشكل الأرض والشمس والقوانين الإلهية التي تحكمها، وفي التعامل مع هذا الفهم وتطبيقاته.
عندما تتفق كل فروع العلم التجريبي القياسي على حقيقة علمية يقينية، فلن تتعارض هذه الحقيقة مع كلام الله الخالق القدير. التعارض قد يحصل مع التفسير الاجتهادي لكلام الله، بسبب محدودية علم المفسرين حسب الزمان والمكان اللذين يعيشون فيهما.
يبدو سطح الكرة الكبيرة مسطحا بالنسبة للنملة الصغيرة وهي تدب فوقها، لأن حجم النملة وقدراتها الاستشعارية لا تتعدى بضعة سنتيمترات التي من حولها. كذلك الإنسان في محدودية حجمه وحواسه بالنسبة للأرض الشاسعة لا يرى منها سوى بضع كيلومترات ثم يتلاشى بصره في اللامكان واللامحدود. هذا المدى المكاني الذي يستطيع الإنسان إدراكه يبدو له مسطح الشكل، ولكن الأرض بمساحاتها الشاسعة ليست كذلك.
عندما يرتفع الإنسان، بسلطان علمي، بمنطاد أو طائرة أو مركبة فضائية مثلا ً، سوف يرى ويدرك فورا ً أن الأرض كروية الشكل وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس. عند ثبات حركة هذه الآلة في الفضاء يشاهد الإنسان بداخلها تغير المكان على الأرض التي تدور وبسرعة فائقة. القمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس والشمس تدور وهي سائرة في مجرة درب اللبانة (التبانة)، والمجرة بكاملها تدور في كون الله. الكل يدور ويجري لمستقر له، وذلك تقدير العزيز العليم.
بالنسبة لعلماء الفلك والرياضيات وفيزياء الحركة، ليس هناك إشكال، فالأمر علميا ً محسوم بالنسبة لهم. إشكالهم يتركز على محاولة اقتناص طاقة حركية كافية للتغلب على قوى الجذب والطرد بين هذه الكواكب الكروية، لإرسال الأقمار الصناعية والصواريخ والمركبات الفضائية ومعامل الرصد والتصوير للأرض وللمذنبات والأجرام والكواكب والنجوم والمجرات.
عندما تسير عربة على سطح الأرض تخضع لقوانين الجاذبية والحركة على الأرض، منسوبة إلى فارق الحجم والوزن والسرعة. كذلك الطائرة المحلقة في السماء داخل الغلاف الجوي تخضع لنفس القوانين، فهي تتحرك مرتبطة تماماً بقوانين الجاذبية الأرضية، فهي في السماء تخضع أيضا للمنظومة الفيزيائية نفسها مثلها مثل العربية على سطح الأرض. المعنى هو أن الطائرة المرتبطة فلكياً بالأرض تدور مع الأرض حتى وهي تتحرك في الغلاف الجوي بسرعتها الذاتية نحو المطار، تماما ً مثل الإنسان المسافر إلى مدينة أخرى، يدور مع الأرض بسرعة الأرض، لكنه يتحرك نحو المدينة المنشودة بسرعته الذاتية. لم يعد في الأمر صعوبة استعصاء على الفهم، إلا داخل الرفض لمنتجات العلم، واستخدام هذه المحدودية المعرفية لتفسير النصوص والتصدي لرفض الحقائق العلمية، وهذه معركة يتوجب على المجتمعات المنغلقة دفع فواتيرها الباهظة.
حتى الآن ما زال محتوى هذا المقال محصورا في الرؤية العلمية والتقليدية، لكن الأمر أوسع بكثير ويدخل في صميم الانفصام والتكاذب المفروض في التربية الاجتماعية.. كيف؟.
عندما يعود ابني من المدرسة ويسألني، يا والدي هل الأرض كروية وتدور؟. أسأله عما تعلمه في المدرسة فيجيبني محتاراً، أستاذ الجغرافيا يقول كروية وتدور، وأستاذ الدين يقول ليست كروية ولا تدور.
أستاذ الجغرافيا يقول إن من ينكر التكوير والتدوير ينكر ما هو معروف من العلم بالضرورة، وأستاذ الدين يقول إن من يعتقد بالتكوير والتدوير ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كيف أجيب يا أبي في الامتحان؟.
كوالد هذا التلميذ أجدني في ورطة كبيرة مثل سجين في غرفة يقف على بابيها حارسان.
هو يريد الخروج المشرف وليس بالكذب والاحتيال، ثم يدرك أن ذلك مستحيل لأنه لا يريد التضحية بمستقبل ابنه في المدرسة فيضطر إلى نصح ابنه بالكذب.
الحل القديم الشائع في كل بيت سعودي أن ينصح الأب ابنه هكذا: جاوب يا بني في حصة الجغرافيا بالتكوير والتدوير وفي حصة الدين بالثبات والتسطيح، لألا ترسب في الامتحان وتفوتك فرص النجاح في الحياة.
هكذا يضطر الأهل لتعليم أولادهم الكذب مقدماً على طبق من مستقبل يريدونه ناجحاًً لهم. تتلقف وتختزن عقلية الطفل الكذب على أنه من نوع الذكاء المباح، فيصبح التلفيق بين الدين والعلم إحدى وسائل النجاح ثم تتوسع دوائر الحاجات للتلفيق حتى تصبح جزءاًً أساسياًً من الثقافة السائدة.
ألا من عقلاء وحكماء مخلصين يصححون هذه الورطة الشرعية العلمية؟. وسؤال أخير، ترى كيف يتعامل مدرس الدين مع أبنائه هو عندما يواجهونه بنفس السؤال؟.