د. جاسر الحربش
الرسالة الثالثة إلى معالي وزير الصحة: معالي الوزير، لقد تسلّمت المسؤولية في الوزارة الأشد أهمية للمواطن والأوسع انتشاراً في جغرافيا المملكة الشاسعة والأكثر دهاليز والأعقد تعرجات بيروقراطية والأقل حصولاً على رضا المواطن والمسؤول. وزارة الصحة أيضاً ليست مسؤولة فقط عن عشرين مليون مواطن سعودي، وإنما عن صحة عشرة ملايين مقيم إضافي، بما يترتب على ذلك من تداخل في العلاقات السعودية مع الخارج ومن الأعباء المالية والطبية والتمريضية واللوجستية، ومن احتمالات انتقال الأمراض والأوبئة عبر وسائل السفر، التي تبلغ ذروة أخطارها في مواسم الحج والزيارة للحرمين الشريفين.
من خلال هذه المقدمة أحاول أن ألفت نظر معاليكم إلى أهمية تصحيح الأولويات في توزيع وتنويع الخدمات الصحية.
من المعلوم أن مستويات العناية الصحية حسب المعايير العالمية ثلاثة، الطب الأولي والوسيط والعالي، ولكن أهمها حسب المعطيات الجغرافية والسكانية على الإطلاق هو الطب الأولي. التركيز على هذا المستوى في العناية الصحية يتعامل مع الأمراض في بداياتها البسيطة، حيث يكون التشخيص أسهل والعلاج أكثر نجاعة والتكاليف أقل واحتمالات الحاجة إلى التنويم في المستشفى في أدناها أهمية. الطب الأولي يقوم على الأداء النوعي المتقن والسريع في مراكز الرعاية الأولية والعيادات الخارجية ومراكز الإسعاف والإسعاف المتنقل، ولذلك فهو يحتاج إلى الاستثمار السخي والواجب، بشرياً ومالياً ولوجستياً وتدريبياً، بطريقة أفضل بكثير من الموجود والمطبق حتى الآن في الخدمات التي تقدمها وزارة الصحة.
معالي الوزير، إن أكثر الأمراض المستعصية على التشخيص والعلاج (أي تلك التي تحتاج إلى مراكز متخصصة وعالية التأهيل) لا تصل إلى هذه المستويات من التعقيد والأرقام إلا بسبب انعدام الكفاءة في الطب الأولي. أمراض الفشل العضوي وزراعات الأعضاء ومراكز القسطرة والجراحات المعقدة، كل هذه غالباً بل ودائما ما تكون قد بدأت بأعراض بسيطة سهلة التشخيص والعلاج قليلة التكاليف في مراكز الرعاية الأولية. عدم الكفاءة في التعامل هناك معها يجعل مضاعفاتها تتراكم وأعداداها تتصاعد، مما يحدث ضغطاً كمياً ونوعياً ومالياً على المراكز المتخصصة يجعلها لا تستطيع التعامل معها بكفاءة، لا من ناحية التوقيت المناسب للمريض ولا إيجاد الأسرة وتوفير الخدمات والطواقم الطبية والتمريضية الكافية، علاوة على ضعف احتمالات الشفاء منها بسبب الإزمان، بالإضافة إلى الزيادة الهائلة في الإنفاق المالي الذي يتطلبه التخصص العالي لتشخيصها وعلاجها وإعادة التأهيل لإعاقاتها وعاهاتها.
معالي الوزير، أقول لك عن ممارسة طبية تمتد لأكثر من أربعين سنة، إن الإشكالات المؤدية إلى الفشل المتكرر في وزارة الصحة تتركز في التالي:
1- الحرس البيروقراطي القديم، بسبب ما تراكم بداخله من محسوبيات وتكلس.
2- الإهمال غير المبرر في الاعتناء بالبنية الأساسية للرعاية الصحية، وهي بيئة الطب الأولي في مراكز الرعاية الأولية.
3- شدة التركيز الإعلامي والوجاهي على المراكز المتخصصة الباهضة التكاليف، بينما هي لا تقدم الخدمات سوى إلى نسبة متدنية العدد من مجمل الخدمات الكمية للمرضى وتبتلع من الإنفاق المالي الرقم الأعلى.
في الختام أبارك لك تشريف الدولة بهذا التكليف الذي يعتمد على ثقة عالية وعشم كبير، محاولاً لفت نظرك مرة أخرى إلى التعامل كأوليات مع النقاط الثلاث المذكورة أعلاه، الحرس المتكلس والوضع المتدني لكفاءة الطب الأولي، كما أنصح بتقليص التوسع مؤقتاً في المراكز عالية التخصص، حتى يقف الطب الأولي على قدمين قويتين، فتتناقص الحاجة إلى المستويات العليا من الطب، وتصبح السمعة الصحية المتميزة للمواطن تعتمد على القواعد الأساسية للأداء الطبي. وفقك الله وأعانك في مهمتك الصعبة.