رشيد بن عبدالرحمن الرشيد
ليلة الجمعة الثالث من ربيع الآخر للعام الهجري ألف وأربعمائة وست وثلاثين لم تكن ليلة عادية، بل مختلفة.. فقد تكحلت بالسواد وتوشحت بالحزن والأسى.. غاب فيها بدر ليس كل البدور وأفل نجم عظيم ورجل شهم كريم.. إنه أبو متعب ليلة أمسينا فيها -برعاية الله- وحكم عبدالله وأصبحنا - برعاية الله - يحكمنا الملك سلمان ليلة حبست الأنفاس وسكبت الدموع.. وفاضت الدعوات زفرات تلهج بالدعاء (للوالد الكبير) وتدعو له بالرحمة والمغفرة.
ليلة (بكاء الوطن) على الفقيد الغالي، ولحمة الشعب والأهالي مع الملك سلمان وصناعة النقلة السلسة للحكم والتي هي بحق (ماركة سعودية) والزحف الكبير نحو البيعة والولاء والطاعة.. هي حكاية عظيمة أدهشت العالم بأسره وألجمت الأعداء والحاقدين وأربكت حسابات المتشائمين.. محلياً وإقليمياً.. تلك الليلة وما بعدها رسمت لوحة (وفاء) عظيمة بين الحاكم والمحكوم.
إن قصة الحب للملك (عبدالله) فصولها عديدة.. وعناصرها متشعبة وهي رواية سيخلدها التاريخ الذهبي في صفحات ناصعة البياض وسيحكيها الآباء للأبناء والأحفاد.. إنه ملك سكن القلوب والنفوس، بل تجاوزت محبته الحدود إلى مساحات في فضاء الأمتين العربية والإسلامية..
كيف لا!! وهذا (القائد) تحسس حاجات شعبه وأهله وأبنائه كما يحلو له أن يدعوهم.. فكانت يده تصنع السعادة وتبذر الخير وتبعد الشر وعينه تقرأ مدى الرضا في عيون رعيته.. ولسانه لا يكل يوجه المسؤولين إلى عمل المزيد نحو العطاء والنماء والرخاء، لقد فتش عن بيوت الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام وكان قريباً منهم ونقلهم من العوز إلى رغد العيش والحياة الكريمة والضمان الاجتماعي شاهد على ذلك..
أما إلى أمتيه العربية والإسلامية فكانت يده (عليا) مسعفاً عاجلاً ومبادراً إلى الإغاثة لكل ما يصيب الأمتين من الخطوب والكروب ناهيك عن المساعدات المقطوعة.. وهي إغاثة وعطاء كريم بلا منّة وربما وصل الأمر إلى جسر متواصل من الغذاء والكساء والدواء وما ينفع المنكوبين ويدخل كل السرور عليهم.. كيف لا وهو صاحب دمعة قريبة وقلب رقيق في المجال الإنساني وليس ذلك بغريب فهو ملك الإنسانية.
إن من يكتب عن ملك بمكانة عبدالله بن عبدالعزيز سيكل ولن يوفيه حقه من خلال مقال عابر ومشاعر سريعة.. فأنت أمام هرم سياسي محنك وصاحب نظرة ثاقبة ورأي سديد وقائد يؤمن بتوحيد الكلمة وتماسك الصف على المستويات الخليجية والعربية والإسلامية والعالمية.
ناهيك عن أنه ينبذ الفرقة ويحاول أن يصنع اللحمة بين الإخوة ويذيب الخلافات وينشر المحبة.. وصوته عال ومسموع ومقنع في المؤتمرات واللقاءات والمحافل الدولية السياسية والاقتصادية، فهو رقم صعب ومميز في الرأي السياسي.. بل إنه أول من دعا إلى الحوار الدولي والتقارب بين الأديان ونبذ الإرهاب والتطرف في أرجاء المعمورة.. ونشر السلم والعدل الدولي والوسطية المتسامحة.
(عبدالله) -رحمه الله- كان أحد خريجي مدرسة الملك (عبدالعزيز) - طيب الله ثراه -.. التي تخرج منها ملوك عظماء هم: سعود وفيصل وخالد وفهد والذين سبقوه إلى الدار الآخرة وكلهم قادوا البلاد متمسكين بنهج والدهم صقر الجزيرة الشريعة السمحة مصدرها القرآن والسنة المحمدية.. وكان ديدنهم خدمة بيت الله الحرام ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم.. وعمل كل ما يسهل على الزائرين والمعتمرين والحجاج مناسكهم وعبادتهم.. وقد واصل (الراحل) هذا النهج العظيم وكانت مكة والمدينة في عينيه أمهات) كريمات أحسن البر بهما وتطويرهما. أما الحرم المكي وما يحيط به فقد كان حاضراً في قلبه.. مد يده إليه بالإعمار والتطوير ليستوعب أمة عظيمة من عامة المسلمين.
أبو متعب تبنى التطوير والنماء في الداخل وشهد عهده أكبر امتداد أفقي في نمو التعليم العالي، حيث وجه بالتوسع في ولادة جامعات جديدة وعشرات الكليات في المناطق والمحافظات حتى بلغت أكثر من خمسة وعشرين جامعة.. ناهيك عن التوسع في مجال التعليم التقني والتدريب الفني.. أما فئة الشباب والرياضيين فقد تلقوا هدية غالية مجموعة من الجواهر الرياضية (الملاعب) في عموم مناطق الوطن الغالي لتنفذ حسب المواصفات العالمية من قِبل شركة أرامكو.. وما أوردت عن تطوير الداخل هو غيض من فيض فالقلم يعجز أن يستوعب الإنجازات لهذا الملك الصالح.. والذاكرة لا تحيط بكل ما قدمه الفقيد الغالي لوطنه وأمته.
في الختام ملك القلوب لا أعرف كيف أودعك.. طيفك سيبقى مسافة طويلة حاضراً.. واسمك سيخلد في الذاكرة لدى عشيرتك الكبيرة (شعبك الوفي).. هكذا رحيل الكبار خسارة عظيمة وحدث جسيم فكيف والكبير (والدنا) أبو متعب.. لا شك أنها صدمة هزت مشاعرنا.. لكن لا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
المصاب عظيم والخطب جلل.. لكن ندعو الله أن يرحم عبده عبدالله ويسكنه فسيح جناته ويلهم أبناءه وبناته وأسرته الكريمة والأسرة الحاكمة الصبر والسلوان.. وخالص العزاء وصادق المواساة لهم وللشعب السعودي والأمتين العربية والإسلامية.
اللهم بدله داراً خيراً من داره وأنزله منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.. واجعل قبره روضة من رياض الجنة واملأه بالرضا والسرور والفسحة والنور.. اللهم ثبته على القول الثابت وعزاؤنا أن أخاه الملك سلمان هو خير خلف لخير سلف راجياً لـ(أبي فهد) التوفيق والسداد، فهو أهل لهذه المسؤولية وجدير بتحملها، وهو محل إجماع شعبه الذي بايعه بالحب والسمع والطاعة.