د. حمزة السالم
علم الاقتصاد الكلي علم حديث، لم يكتمل بعد. فالناتج المحلي الذي هو أهم مرتكز في مؤشرات الاقتصاد الكلي لم يظهر إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بطلب من الرئيس الأمريكي روزفلت.
فما خرج المرض الهولندي إلا لعدم فهم الاقتصاد الكلي آنذاك.
فاكتشاف الغاز الطبيعي في هولندا في القرن الماضي أدى إلى ارتفاع عملتها، مما أدى لهجر الصناعات والزراعة المحلية، للجوء الهولنديين للاستيراد بسبب رخص البضائع الأجنبية أمام قوة عملتهم.
ورغم أنني لم أجد من شرح لأسباب ارتفاع العملة الهولندية الى هذه الدرجة المدمرة، إلا أنني لا أرى له سبباً شارحاً، إلا أنه سوء تصرف من البنك المركزي الهولندي آنذاك. (ولعله كان متصاحباً مع رضا سياسي قاصر النظر، أعجبته قوة العملة الهولندية).
فقد كانت العملات آنذاك مربوطة بالذهب، وكان ميزان المدفوعات يشكل التغير في الاحتياطي للبنك المركزي. فأعتقد أن البنك المركزي لم يقم بعزل فائض الميزان التجاري الحاصل من تصدير الغاز عن موجودات القاعدة النقدية (مثلاً نحن اليوم نعزل فوائض النفط باستثمارها لحساب المالية).
فبسبب عدم العزل ارتفعت موجودات القاعدة النقدية للعملة، مع عدم حاجة الاقتصاد الهولندي لزيادة المعروض النقدي. لذلك لم يقم البنك المركزي بإصدار نقد هولندي يقابل الزيادة في احتياطياته النقدية التي تسبب بها فائض ميزان المدفوعات. مما رفع قيمة العملة الهولندية لتساوي قيمة الموجودات المتزايدة. وبالتالي أدى ارتفاع قيمة العملة في النهاية إلى تعطل الاقتصاد الهولندي، واستغنائه عن الإنتاج المحلي بالاستيراد الأجنبي.
وليس هذا الخطأ بأسوأ من خطأ الفدرالي الأمريكي، وخطأ بنك إنجلترا المركزي، واللذان تسببا بالكساد العظيم عام 1929م. فقد كانت العملات الدولية كلها مرتبطة بالذهب، ومنها الجنيه البريطاني والدولار الأمريكي. وهذا يعني تقنياً، من حيث عدم التحكم الكامل في السياسة النقدية، أن الدول المرتبطة عملاتها بالذهب آنذاك كانت في وضع شبيه نسبياً بوضع دول اليورو اليوم، اللهم بعملات متنوعة.
والذي حدث، هو أن بريطانيا كانت قد خفضت أسعار الفائدة البريطانية، لأسباب سياسية محلية. فبدأت الأموال تنتقل من بريطانيا إلى أمريكا بحثاً عن فائدة أعلى. فتدخل الملك البريطاني عند أمريكا متشفعاً لديهم لكي يخفضوا الفائدة الأمريكية لإيقاف هجرة الأموال البريطانية إلى أمريكا. فاستجاب الفدرالي للطلب البريطاني، فخفض الفائدة الأمريكية، بزيادة المعروض النقدي الأمريكي. فارتفعت سوق الأسهم الأمريكية بسبب انخفاض الفوائد. فاعتقد الناس أن هناك طفرة اقتصادية، فتسابقوا للفوز بفرص الاستثمار، فتزاحموا على الموارد دون وجود طفرة اقتصادية حقيقية. فارتفعت أسعار الموارد، كالعمالة والمواد والخدمات. وتوافق مع زيادة المعروض النقدي، ومدعوم بوهم النمو الاقتصادي، فانطلق التضخم من عقاله. مما جبر الفدرالي على تصحيح الخطأ بخطأ آخر. فقد عاد الفدرالي، فرفع الفائدة بسرعة لكبح التضخم. فانهار سوق الأسهم، فتبعه التشاؤم العام في السوق الأمريكية، فتوقف الاستثمار وبدأت تباشير خمول اقتصادي أمريكي.
فما أن سمع البريطانيون بذلك حتى تسارعوا لسحب أموالهم من البنوك في بريطانيا. فسارعت بريطانيا بحماقة لإعلان توقفها عن صرف الذهب مقابل الجنيهات البريطانية، حماية لبنوكها، فانهارت الثقة بالنظام البنكي فانهار الاقتصاد البريطاني. وسرعان ما أدركت أمريكا عدوى الهلع. فتسابق الأمريكان على البنوك لسحب أموالهم، والتي لم يكن عند البنوك ما يكفي من الذهب لتغطيتها، (ولم تكسر أمريكا ربط الدولار بالذهب كبريطانيا) فانهارت البنوك الأمريكية، فدخلت البلاد في الكساد العظيم، ولم تخرج منه إلا بالحرب العالمية الثانية.
وكذلك تضخم السبعينات الهائل الذي تبع ارتفاع أسعار النفط، كان خطأً ابتداء من الفدرالي الأمريكي في ضخه للنقد في محاولة منه لتعويض الاقتصاد كلفة زيادة ارتفاع أسعار البترول. فقد تضاعفت الأسعار ثلاث مرات في عقد واحد دون نمو اقتصادي يُذكر. بينما بالكاد تضاعفت الأسعار مرة واحدة خلال العقود الثلاثة التي تبعتها، الذي اقترن بتضاعف النمو الاقتصادي.
ولكن، وإن كنت قد أسلم بأن هذا كان خطأً ابتداء من الفدرالي الأمريكي، إلا أنني أعتقد أن الخطأ ما كان ليستمر سنوات، لولا أنه جاء ملائماً للدولار في تلك الفترة. فالانعكاس غير المتوقع للتضخم على استمرارية ارتفاع أسعار النفط جعل للنفط مكانة -آنذاك- حلت بديلة عن الذهب كغطاء للدولار، (ورأيي في نية قصد البنك المركزي، بخلق التضخم بعد سنوات من ظهور الخطأ، هو رأي شخصي مبني على معطيات أخرى، وهو أشبه بدعوى خطأ قرين سبان في الأزمة المالية).
وعموماً، فما زال الاقتصاد الكلي يتطور يومياً، وآخر تطوراته سياسات برناكي النقدية في تجنيب أمريكا الأزمة المالية الحالية، مع تفادي مخاطر آثارها المستقبلية. فقد أدت سياسيات برناكي بشراء السندات الطويلة الأجل إلى إزالة شبح ارتفاع الفوائد في المستقبل، والذي كان الجميع يتوقعه من قبل نجاح سياسات برناكي.
وختاماً، فما زال الاقتصاد الكلي يشكل فخاً للفكر الاقتصادي التقليدي. فخداجة علم الاقتصاد الكلي ما زالت تصطاد اقتصاديات الدول، هنا وهناك. فحتى اليوم وما لم تحصل تطورات جذرية في علم الاقتصاد الكلي، فما اليورو مثلاً إلا فكرة ساذجة اقتصادياً لا تبعد كثيراً عن سذاجة فكرة بيع النفط بالريال السعودي. وما تقليد اليونان لغيرها من الدول ذات العملة الحرة إلا أحد ضحايا فخاخ الفكر الاقتصادي التقليدي. ولعل يكون لنا وقفة أخرى لبسط ما أختزلته خاتمة المقال.