د. فوزية البكر
لا حدود للأدلة المتواترة عن رسول الله وصحابته - رضوان الله عليهم جميعاً - والتي تحض على تقديم عمل الخير والحثّ عليه باعتباره أحد لبنات بناء المجتمع من خلال تراحم الناس مع بعضها وتكافلهم، ولا ننسى قول رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً)، وهو ما يعني أن لا صحة لمجتمع يعاني قطاعٌ منه من حاجة أو شدة أو عسر أو مشكلات، ولا نمد لهم يد المساعدة مادية كانت أو معنوية.
وقد كانت فكرة التكافل بسيطة وقابلة للتنفيذ من قِبل الأفراد والقادة المحليين للمجتمع أو القبيلة أو المسجد، حين كانت أعداد الناس محدودة، فالجار يعرف جاره ويتفقده إن غاب، ويسأل عنه إن مرض ويقوم معه إن فرح، لكننا لا نستطيع فعل ذلك اليوم أمام ملايين الناس الذين ازدحمت بهم المدن والأرياف، وأمام تعقيدات حضارية خلقت المسافات الهائلة وتطلبت احتياجات متعددة وتعقيدات بيروقراطية، لم تعان منها المجتمعات الإسلامية في إطارها البسيط آنذاك، مما يعقِّد فكرة العمل الخيري ويرفعه إلى المستوى المؤسسي بدل المحلي أو الخاص كما كان دائماً.
إضافة إلى ذلك جاءت حادثة الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها من أحداث إرهابية لتغيِّر مفهوم العمل الخيري وتضعه أمام تحديات حقيقية من حيث القدرة على التحرك وجمع الأموال وتنظيم الفعاليات، وذلك من خلال تدخُّل الدول المباشر في هذه الأعمال ومتابعتها، بغية التأكد من أن هذه الأموال أو الجهود المبذولة لا تذهب للأشرار الذين دمروا السلام في عالمنا الحاضر، كما تم إيقاف الكثير من الجمعيات الفاعلة لاتهامها بالإرهاب (حتى ولو لم يكن لها أية علاقة، لكن الدول كانت بحاجة إلى وقت وجهد حتى تتأكد).. هذا بالطبع أضرّ بالعمل الخيري، وقيَّد قدرة الناس على العطاء والتبرع ورعاية المحتاجين مثلما كانوا يفعلون دائماً، وهو ما قلَّص فكرة التكافل الاجتماعي والخيري أكثر وأكثر، فإضافة إلى تعقيدات الحياة الحاضرة، وتباعد المدن وكثرة الأوراق الرسمية المطلوبة، جاءت مشكلة الإرهاب ليقف العمل الخيري في العالم الإسلامي أمام تحديات حقيقية لا بد من تفكيك رموزها حتى يستمر المجتمع سليماً ومتكافلاً كما كان.
في هذا الصدد يجب أن نتذكر أن الله خلق الناس طيبين في ذاتهم، بمعنى أنه لم يخلقهم أشراراً (كما ترى بعض الفلسفات الحديثة)، وما نراه من مشكلات يثيرها بعض الناس من قتل وسرقة واعتداء، إنما هي في الغالب نتاج ظروف بيئية أو ثقافية، فالمعرفة في النهاية منتج اجتماعي، أو أن تكون نتيجة اضطرابات شخصية أو عقلية أو هرمونية والتي قد تصيب البعض هنا وهناك.. لهذا يشعر الناس في العادة بسعادة غامرة حين يساعدون فقيراً أو محتاجاً ويشعرون بالرضا عن النفس بوجود معنى لحياتهم، إذا مدّوا يد العون لمن يحتاجها.. لكن هل يُوفر نمط حياتنا الحاضرة منافذ مناسبة لاستثمار هذه المشاعر الإيجابية وهذه الحاجة الطبيعية عند البشر، لتصب في أعمال الخير بما يخدم الفرد والمجتمع؟
لا أظن ذلك، خصوصاً في مجتمعنا الذي يشهد تغيرات بنيوية وقيمية عميقة لم يواكبها هيكلة مؤسسية مناسبة، فإذا كان الجار يسأل عن جاره سابقاً، ويعرف من يسكن في سابع دار، فنمط الحياة الحالية لا يسمح بذلك، مما يتطلب توفير بنى مؤسسية مختلفة تنبثق من المجتمعات المحلية، لتساهم في تقديم الخدمات المختلفة التي يتطلبها المجتمع والذي لا يمكن لأية دولة مهما كبُرت وغنيت أن تقوم بها لمفردها، وسأقدم بعض الأمثلة من أغنى دولة في العالم، وهي الولايات المتحدة التي ينخرط تقريباً معظم أفرادها (وعددهم 320 مليون مواطن) في أعمال خيرية وخدمية وصحية تخفف الأعباء عن كاهل الدولة وتوفر للمواطنين فرصة للعطاء والإحساس بقيمتهم في مجتمعهم، كما تشغلهم عن التفكير في الشر أو السلبية أو الأمراض النفسية والعقلية، كما توفر لهم ما يشغل وقتهم وتفكيرهم، ويوفر فرصاً للتفاعل الاجتماعي وبناء العلاقات داخل المجتمعات المحلية.
سأعرض بعض النماذج من مدينة صغيرة اسمها بنكور في ولاية مين (بجانب نيويورك)، حيث اطلعت على كثيرٍ من الخدمات والجمعيات الخيرية التي تعمل بمظلة شعبية بسيطة، أو بإشراف الكنيسة أو إشراف بعض المؤسسات الخيرية للأغنياء مثل بيل جيتس الذي تبرع بنصف ثروته البالغة 65 مليوناً لكل فقراء العالم، ويقود عملاً خيرياً ضخماً في كل أنحاء الولايات المتحدة كما في أفريقيا.
فعلى سبيل المثال هناك مؤسسة اسمها كانتين، وهي بسيطة جداً في فكرتها: فأي أحد لديه أي أطعمة (غير طازجة) ولكنها زائدة عن حاجته مثل مواد معلبة، حليب طويل الأمد، مكرونة، رز وغير ذلك فيحضرها لهذه المؤسسة التي يديرها ويعمل بها كبار السن تبرعاً من وقتهم لأنهم متقاعدون ولديهم خبرة كبيرة في كثير من المجالات، وحين قابلتهم في المؤسسة دهشت من حيويتهم وصحتهم وسعادتهم ولطفهم، وقارنته بما تعانيه نساؤنا الكبيرات من شكوى دائمة وأمراض وسمنة وشعور بعدم الجدوى، بعد أن كبرن وانتهت أدوارهن في رعاية الأبناء، لذا لا يجدن شيئاً يفعلنه غير الشكوى من الصحة والحظ والشايب اللي ما تخلص طلباته!.. لكن هؤلاء المسنون في هذه الجمعية سعداء لديهم برنامج يومي يستيقظون من أجله، وطبعاً فالنساء يقدن سياراتهن إلى المؤسسة أما العجزة منهم من الجنسين فهناك من يتبرع من سيدات الحي الشابات غير العاملات لإيصالهم وإعادتهم حسب جداولهم، وهذا بالضبط ما نسميه تكافلاً اجتماعياً لا يحقق فقط حاجة المحتاج، بل يلبي حاجة المحسن لأن يشعر بأنه ذو أهمية وأنه يقدم عملاً خيّراً يُؤجر عليه.
تتوزع هذه الجمعية في كل أنحاء المدينة، حيث يأتي المحتاجون إليها ويعطون ملفاً يضم ما يوجد في الجمعية الآن من مواد غذائية أو مستلزمات منزلية، ويؤشر المحتاج على ما ينقصه من هذه المواد التي تُعطى له مجاناً، كما تقدم المحلات الكبيرة أطعمة مخفضة مخصصة للتبرع لتلك الجمعيات، وفي عيد الميلاد للعام 2014 قام متجر مشهور ببيع ألفي حبة من طائر (التركي) بعشر دولارات، حيث اشتراها المواطنون من ميزانياتهم وقدموها للجمعية، وحصل عليها المحتاجون الذين تمكنوا من الاحتفال بهذا العيد مثل بقية المواطنين.
نوع آخر من العمل الخيري عبر مسابقات تقام في مدارس المدينة، وتديرها محطتا راديو محليتان ويتم التنافس بين المدارس على من يجمع مواد زائدة عن الحاجة، فيحضر الطلبة بعض العلب أو مواد التنظيف، كذلك يجمعون القروش الصغيرة مثل القرشين ونصف الريال، وفي نهاية الأسبوع يتم جمع التبرعات في حفل بيتزا تقيمه المحطتان في أستاذ المدينة الرياضي وبحضور أهالي طلاب المدرستين، وهكذا لاحظْ كيف تمكَّن العمل الخيري من تحقيق أهداف كثيرة جداً لهذه المجتمعات ولم تقتصر فقط على مساعدة المحتاجين، وهو طبعاً ما يحدث في النهاية، لكن خلال هذا العمل الكبير لاحظ عدد المؤسسات الداخلة والأنشطة المصاحبة والأهالي والطلاب والمدرسين وبلدية المدينة ومحلات البيتزا وفرحة اللقاء الجماعي بين الجميع في نهاية الأسبوع، وما صاحب ذلك من تنظيم وانشغال كله في النهاية لصرف الطاقات الزائدة عند الأفراد في ما يخدم مجتمعاتهم المحلية ويوفر لهم هدفاً نبيلاً يسعون لتحقيقه بدل الغرق في أفكار سوداوية وإرهابية لا تحمل إلا الفرقة والضغائن والتفكك مع عدم القدرة على الوصول إلى المحتاجين بالسرعة المناسبة، كما يحصل للأسف في كثير من مجتمعاتنا.. ربما نحتاج أن نغيّر نظرتنا التقليدية والرسمية للعمل الخيري، ليشعر كل فرد بأنه قادر على المساهمة كل من موقعه؟!