حينما تحدث خادم الحرمين الشريفين عما يمكن تسميته ظاهرة «كسل العلماء»، فإنه لم يكن يوجه كلامه بالتأكيد إلى هؤلاء الثلة من كبار العلماء الذين كانوا يجلسون بجواره ويستمعون إلى حديثه، وإنما هي رسالة صريحة وواضحة لكل العلماء وطلبة العلم والدعاة في هذا البلد الكريم،
بأن يتركوا الكسل عنهم بكل أنواعه : الكسل العقلي بالانهماك وراء العاطفة وبناء المواقف عليها والتصورات منها، والكسل العلمي بالتقليد والجمود، والكسل الفكري بالعجز والتلكؤ عن مواجهة ظواهر الغلو بشقيه : الإفراط والتفريط .
وما نود تسليط الضوء عليه هنا من كلامه - حفظه الله - هو ما يتعلق بالجانب الفكري، وهو ما يعنيه سياق الحديث، فقد جاء هذا التوجيه الكريم أو صيحة النذير الصادقة عند حديثه عن جماعات العنف التي تتلبس بالإسلام، وتدعي زورا وبهتانا أنها تستمد قيمها من الإسلام، وهي في الوقت ذاته تنازع الله تعالى في شريعته فتفتري عليه وتفتئت على دينه.
إن هذه الدعوة الكريمة من لدن خادم الحرمين الشريفين يمكن أن نقول إنها دعوة لكل العلماء وطلاب العلم إلى أن يقوموا بجهدهم في حماية ثغور الإسلام من هؤلاء العابثين، وهي في الوقت ذاته دعوة إلى شطب المناطق الرمادية في الخطاب الإسلامي تجاه هذه الجماعات، فلا مهادنة ولا مجاملة مع من يشوه الإسلام ويفتري عليه، وكلنا يعلم حجم الأكلاف والفواتير الضخمة التي دفعها الوطن في مرحة مضت نتيجة هذه الضبابية في الخطاب تجاه جماعات العنف، حتى رأينا بعض المنتمين للدعوة بكل أسف كان مروجا لفكر هذه الجماعات بقصد أو بغير قصد، بل إن العنف بطبيعته لا يمكن أن يتمدد حتى يتم قبله بناء أرضية فكرية تسوغ هذه الأعمال وتؤصل لها، ومن يقرأ في أدبيات الخطاب الإسلامي في مرحلة مضت سيجد مثل هذا ظاهرا بشكل لا لبس فيه ! والمشكلة الأكبر أن العنف اليوم يعود بشكل أكثر شراسة ووضوحا من ذي قبل ومع ذلك لم نر في أوساط العلماء والدعاة من الجهد ما يوازي هذا الخطر ! بل ورأينا بكل أسف إعادة إنتاج الأخطاء التربوية السابقة التي أسست للعنف وروجت له في أذهان الشباب، وجعلت الشاب السعودي هو الأكثر عرضة وقابلية للانخراط مع هذه الجماعات مهما كانت درجة الغلو لديها، بل إنه كلما ازداد منسوب الغلو لدى هذه الجماعات كانت أكثر إغراء للشباب السعودي بكل أسف، ولسنا نرجم بالظن حينما نقول إن أكثر الجماعات دموية وشراسة عبر التاريخ وأعني بها جماعة «داعش» يمثل الشباب السعودي فيها عدداً من كوادرها!، وقد نجحت هذه الجماعة في استقطاب هذا العدد من الشباب .
إن العلماء والدعاة أحوج ما يكونون اليوم إلى الشجاعة في قول الحق، والتخلص من الكسل بكل أنواعه، والوقوف مع الدولة صفا واحدا أمام هذه الجماعات الاستئصالية، وعليهم أن يتوجهوا إلى الشباب ببرامجهم التوعوية، وأن يحذروهم من العنف ومن وسائله وأساليبه , وأن يفككوا بنيته الفكرية، وهذا الأخير»تفكيك البنية الفكرية للعنف» هو العنصر المفقود في برامج توعية الشباب سواء في الدروس العلمية أو المحاضن التربوية، أو البرامج الإعلامية، وما أعنيه بالبنية الفكرية للعنف هي تربية الشباب على الحدة مع المخالف والتوجس من تصرفات الدولة وقراراتها، وتسييس الشاب وعولمة همومه وتدويلها، وبناء العقل الأصولي والرؤية الثنائية لدى الشباب، كل هذه القضايا هي في تقديري تشكل البنية الفكرية للعنف التي يتكئ عليها الشاب في تسويغه للإرهاب والعنف، وهي بحاجة إلى تفكيك، ولن يقدر على تفكيكها إلا الخطاب الشرعي المعتدل، وأشير هنا باختصار إلى أهم قضيتين من هذه القضايا، الأولى : تربية الشباب على التوجس من الدولة والنظر بعين الريبة والشك إلى الكثير من قراراتها، وهذه في تقديري خلقت لدى الشاب القابلية الشديدة للاستلاب من قبل أعداء هذا الوطن، وخاصة من قبل جماعات العنف المعاصرة، وكذلك جعلته من الناحية النفسية يعيش صراعا عنيفا في داخله، فهو جاهز للاشتعال في أي لحظة لأنه ممتلئ بخيبات كبيرة في نفسه كما يعتقد، فكل قرار يصدر يهيئ الشاب نفسه للمواجهة معه بمجرد أن يرفع أحد المناوئين للقرار أن هذا يدخل ضمن مشروع تغريبي سيدمر البلد! وحينما يمضي هذا القرار يضمر الشاب في نفسه أن هذه نقطة سجلها الخصم (الدولة) في ملعبه! فينتظر اللحظة المناسبة للثأر من الدولة! وهكذا حتى يتخرج الشاب وقد تحول إلى قنبلة موقوتة تنتظر فقط من يشعل فتيلها.
ويلتحق بهذا تربية الشاب على العقل الأصولي أو ما يمكن أن أسميه : نظرية الثنائيات، وهي القضية الثانية التي أود الحديث عنها، فالشاب نتيجة لهذه التربية يتعامل مع كل خلاف بأنه خلاف بين الحق والباطل أو الخير والشر، وخاصة ما يتعلق بقرارات الدولة، وهذا في تقديري خطير جدا في التشكيل العقلي للشباب، لأنه من الطبيعي أن تكون بعض هذه القرارات يمكن توظيفها ذات اليمين أو ذات الشمال، وهنا مكمن الخطورة، ومن أقرب الأمثلة على ذلك: حينما منعت وزارة الشؤون الإسلامية مجالس رواية الحديث الشريف التي تعقد في المساجد لأنها ليست على طريقة صحيحة من هدي السلف، ولمحدودية فائدتها، رأينا وقرأنا الكثير من التعليقات على هذا القرار في وسائل التواصل الاجتماعي بأن هذا من منع ذكر الله - عز وجل -، وبعضهم وصل به الحال أن يستدل على تجريم هذا القرار بقول الله تعالى : «ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه « ولكم أن تتصورا حال شاب تفتحت مداركه وهو يقرأ هذا القرار بهذه الطريقة الأصولية الخطيرة ! كيف سيتعامل مع الدولة في المستقبل ؟ وكيف سيكون موقفه من أعدائها ؟! هذا المثال وغيره يؤكد أن الكثير من معالجاتنا للغلو لم تتجه إلى تفكيك البنية الفكرية له، بل نكتفي عادة بإدانة مجملة لمنهج الغلو لكننا نتوقف ونتعثر عند تكييفه، أو الدخول في مناقشة تطبيقاته وتجلياته في مجتمعنا، ولهذا بقي الغلو في حالة كمون في عقل الشباب وينتظر اللحظة المناسبة لأن يخرج ويتحول إلى برنامج عملي، وقد كنا سابقا - قبل أزمة سورية وولادة حركة «داعش» - نعتقد أن الغلو يتم استيراده من الخارج عبر وكلاء تلك الجماعات الذين يردون على هذا البلد، لكن بعد تسلل الكثير من الشباب والتحاقهم بجماعات العنف، رأينا أن عددا كبيرا منهم لم يجاوز سن العشرين ولم يسبق لهم أن انخرطوا مع هذه الجماعات من قبل ومع ذلك كانوا أكثر أعضاء هذه الجماعات إخلاصا لأفكارها وإيمانا بأيديولوجياتها، ولهذا صار مألوفا أن نسمع بين الفينة والأخرى كيف يتحول الشباب بسرعة مدهشة إلى مجرد قنابل مفخخة يتم تفجيرها في مواطن الصراع في يوم وصولها، ولهذا لا يفرح سدنة هذه الجماعات فرحا أشد من فرحهم بقدوم شاب سعودي ! لأنه مفخخ وجاهز للتفجير من المصنع!! وكنت قبل أيام أتابع في موقع التواصل أحد المجرمين المنتمين إلى هذه الحركة المتطرفة «داعش» كيف كان يزف كل يوم لنا خبراً عن مقتل أحد فلذات أكبادنا، ويتتح الخبر بقوله: شاب بطل من الجزيرة العربية قام بعملية استشهادية، تقبله الله، ثم يضع صورة الشاب المغدور ويمضي، وكأنه يسخر من غبائنا ! لا بد لهذه المهازل أن تتوقف، ولابد لهذا الضحك علينا أن يتوقف، ولن يكون كذلك إلا حينما يتخلى العلماء عن الكسل وينطلقون بشجاعة في إقامة الحق وفي سبيل الحق، نعم في سبيل الحق وحده دون سواه وليس لحسابات شخصية مجردة.
لابد للعلماء أن يقوموا بدورهم باقتدار في تشكيل عقل الشاب المسلم تشكيلا علميا صحيحاً بعيدا عن العاطفة والخيال، كما يجب عليهم في المقابل ألا ينتظروا من السياسي مقابلا حتى يقوموا بدورهم - وهذا مهم جدا - وأعني بالمقابل هو التحفيز والشكر والثناء أو الدعم وتوفير الأجواء المناسبة أو الاستجابة لرؤيتهم في الإصلاح، فإن استجاب لهم وإلا تخلوا عن دورهم في الإصلاح والتربية والتوجيه، لا، فلم يكن هذا دور العالم عبر التاريخ، بل عليه أن يمضي في طريقه ولا يرقب إلا الله وألا يتزحزح عن دوره الذي شرفه الله به.
والله المسؤول أن يحفظ على هذا البلد أمنه وإيمانه وقادته وشعبه.