حينما قال أمير المؤمنين عمر: «قضية ولا أبا حسن لها، يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» كان يشير إلى صعوبة بعض القضايا التي تحتاج إلى حل وحكم وشرع من رجل بحجم سيدنا علي رضي الله عنه، ومن ينعم النظر في واقعنا الإسلامي وينعم الفكر في مآلاته يدرك أننا بحاجة إلى أكثر من أبي حسن لصعوبتها واستحواذها على ذهنية السواد الأعظم من المسلمين
مما أدى إلى تفريقهم في معسكرات هلامية وتنظيمات حركية وأحزاب طائفية ومعارك بلا راية ولا هدف وإنما هي قتال من أجل ماض لايمكن رجوعه للاعتذار منه ومن شخصياته المفترى عليها كما لايمكن العودة إلى رحمه في ذلك الزمان للوقوف على الحقيقة التي لاتقبل خلافا واختلافا، والسؤال: مالحل؟..
وعطفا عليه وجوابا عنه فيما يخص الجانب الشرعي دون السياسي فإنني أعتقد أن مشكلتها تتعقد بسبب اعتمادنا على أمرين: أحدهما التاريخ الإسلامي والآخر التفسير الموضعي للنصوص، وسأفصل فيهما على النحو التالي...
أما الأول فلابد من التفريق ابتداء بين الإسلام والتاريخ الإسلامي وبين الرواية التاريخية والحديث النبوي الشريف، الذي عني به رواية ودراية ومصطلحا، وعلى الرغم من كل ذلك لم يسلم من الوضع والتحريف، فما بالك برواية متروكة أو مكذوبة أو محرفة تم تدوينها بعد وقوعها بأكثر من قرنين يتغنى بها الطائفيون قرونا كاملة ولا أستثني أحدا إلا من رحم الله جل وعلا، وما أكثر قول العلماء في تصفية الحديث وهو المقدس وتنقيته من التزوير والوضع الذي فصل علماء المصطلح فيه، قال الشيخ عبد الحي الكتاني - رحمه الله -: «وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح، وقال مسلم: صنفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب «السنن»، وقال الحاكم في «المدخل»: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث، سمعت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور فقال رجل من أهل العراق: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: صح من الحديث سبعمائة ألف وهذا الفتى - يعني: أبا زرعة - قد حفظ سبعمائة. قال البيهقي: أراد: ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين. ولذلك يصعب تطبيق منهج المحدثين على الروايات الإخبارية ذات الأسانيد المنقطعة التي يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكين وقد لايتعلق الخبر بحكم شرعي ولكنه يفصل في كثير من المسائل الطائفية التي تهيج المسلمين على بعض بسبب موقف من سيدنا علي رضي الله عنه لم يصح ولن يصح وبخاصة أنه يستحيل أن يصدر عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استغل الأعداء والسذج والمغامرون هذا الباب لدس كثير من الروايات المكذوبة على صحابة المصطفى وإقحامهم في روايات لاتثبت عن رجل ورع ومسلم تقي في القرن العشرين فضلا عنهم وهم المصطفون الأخيار حتى صارت قواعد للولاء والبراء والتكفير والشتم والتخوين، قال شيخ الإسلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة ( 4/337 ): «والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع»، ويؤكد ذلك أنهم تكلموا في انتحال الشعر والشخصيات ولن تسلم الروايات من هذا الانتحال والتزوير بحجج واهية لاتخلو من سذاجة الحكواتية والقصاص..
والآخر: يحب علينا أن نعتمد على التفسير الموضوعي للقضايا الشرعية كأحكام المرأة في الإسلام وأحكام الجهاد وما يتعلق به من عبادات ومعاملات وغيرها من موضوعات الإسلام ولا نتناول النص في موضوع ما مجردا من علاقاته بنصوص أخرى تجمله أو تقيده أو تضعه في رحمه أو تجمع شتاته، ولو اعتمدنا على التفسير الموضوعي لوجدنا الفتوى الصحيحة ولحصلنا على الموقف الإسلامي الصحيح الذي لايتعارض مع قواعد الإسلام وسماحته، وبالمثال تتضح العبارة، فلو جاء مفسر لقوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (11) سورة النساء. لقال من يصطاد في الماء العكر إن الإسلام يحتقر المرأة ويضع من شأنها اعتمادا على أن اثنتين يقابلهما واحد دون سبر لأغوار الواقع الذي يحكم النص ويتعلق بالشرع القويم، بينما لو ربط هذه الآية بقوله تعالى أيضا: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (21-20) سورة النساء. لأدرك أن الإسلام مع المرأة ضد الرجل، وبخاصة أن تفسير القنطار المال الكثير، وجمع كل النصوص والأحكام التي تتعلق بالمرأة يقف المنصف على منزلتها العظيمة التي تتفق دائما مع النداء الخالد رفقا بالقوارير واستوصوا بالنساء خيرا وخيركم خيركم لأهله...
إن الدين الإسلامي العظيم لايؤخذ مختزلا ولايمكن أن يتجزأ ألبتة وإلا لكان في قفص اتهام وموضع شبهة، وهذا الذي أغرى بعض الشباب وبعض طلبة العلم من الذين يكفرون ويخونون ويطعنون ويكرهون ويحرجون بسبب أنهم عرفوا نصا وغابت عنهم نصوص والحل من كل هذا الحرج للإسلام والضياع للمسلمين هو في التفسير الموضوعي الذي يجمع كل النصوص وتأبى حينها إلا أن تظهر صورة الإسلام المشرقة دون اختزال، وقد تنبه العلماء رحمهم الله لمثل هذا في النقل عن بعضهم، إذ اشترطوا جمع الأقوال كلها في المسألة دون اختزال المسألة في قول ذي رحم معين أو سبب خاص ونص العلماء المعتبرون على أنه لا يكفي لاستنباط حكم أو إصدار فتوى الاعتماد على نص شرعي واحد حتى ولو كان صحيحاً، وإغفال النظر في النصوص الأخرى، فالقرآن والسنة يفسر بعضهما بعضاً، ويحمل بعضهما على بعض حتى يصح إدراك تفسيرهما الصحيح الذي لايتعارض مع العقل ولايتناقض مع النقل على السواء، بل إن الأمر في الحديث والتاريخ الإسلامي أولى وآكد، لكثرة طرقهما، واختلاف رواياتهما، قال الإمام أحمد في الجامع لأخلاق الراوي: «الحديثُ إذا لم تَجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفَسِّر بعضه بعضاً». ولذلك يأتي أحدهم ويستدل بقوله تعالى في باب الولاء والبراء: «ومن يتولهم منكم فهو منهم» ويجعل التعامل مع الأمم الأخرى من منطلق هذه الآية دون نظر إلى قوله تعالى الآخر: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (4) سورة التوبة، ويأتي أحدهم ويعتمد على قوله تعالى في قتل كل كافر: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (191) سورة البقرة، أو قوله تعالى:{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (36) سورة التوبة. متجاهلا الآيات الأخرى التي تقيد هذا القتال وتبينه وتحدد زمانه ومكانه، وبعضهم ينسى ماتمت به الآيتان الكريمتان مباشرة لأنه لايمكن أن يكون الإسلام داعيا للبدء في الاعتداء والظلم إذ يوصي المسلمين بعدم الاعتداء لأن الله لايجب المعتدين، ومن هذه حاله فهو أشبه بمن يقف عند قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} (4) سورة الماعون. دون إكمال للآية الكريمة، وهذا الذي فهمه علماءالسلف وأدركوا خطورته، قال الشاطبي في الاعتصام: «كثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة، وبأدلة صحيحة اقتصاراً على دليل ما، واطِّراحا للنظر في غيره من الأدلة». وخير مايوضح ضروة هذا الجمع والوقوف على الدليل في النوازل الكبرى أقوال سيدتنا عائشة أم المؤمنين ردا على بعض الصحابة الذين لم يقفوا أو لم يدركوا أو لم يحفظوا أو لم يتقنوا وغيرها من الأئمة، وكانت عبارتها دوما رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق: «رحم الله أبا هريرة، رحم الله أبا عبد الرحمن، رحم الله أنسا... وهكذا والله من وراء القصد..