كل شيء في أمريكا قائم على الرأسمالية. قد تبدو عبارة بديهية، وربما تظن أنه يشوبها مبالغة، لكنها عبارة أصح مما يظن المرء. مثال: هناك ما يسمى تعهّد الولاء في أمريكا، فإذا افتتح الكونغرس الأمريكي جلساته فإنه يبدأ بتلاوة هذا التعهد، وكلماتها: «أتعهد بالولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية ولجمهوريتها التي يمثلها هذا العلم، أمة واحدة لا تفترق برعاية الرب، تقوم على الحرية والعدل للجميع».
نفس البيعة تُتلى كثيراً في المدارس الأمريكية، حيث يضع الطالب يده على صدره ويستقبل العلم الأمريكي ويردد تلك العبارة، ومن يقرأ هذه الكلمات يظن أن أول من سَنّها رجلٌ وطني كتبها بأعينٍ تفيض من الدمع حباً لدولته ورغبة أن يرى أبناءها يتعهدون بالولاء لها، إلا أن أصل هذا التعهد ليس كذلك: مجلة أمريكية اسمها «رفيق الشباب» أرادت بيع الأعلام الأمريكية للمدارس، فبدأت حملة هدفها وضْع علم فوق كل مدرسة (باسم الوطنية طبعاً)، واستأجروا رجلاً ليكتب لهم كلمات البيعة، وبعد حملة إعلامية ساخنة باعت المجلة عشرات الأعلام للمدارس والتي بدأت تردد كلمات البيعة، وانتشر هذا حتى صار جزءاً من الحكومة الأمريكية وصارت البيعة تتلى إلى اليوم!
ذلك مثال من تاريخ أمريكا، لكن حاضرها أشد مادّية من قبل، فمن يسير في شوارع أمريكا ويتابع إعلامها فيستفاجأ بشيء غريب وهو أن الدعايات ليست فقط للمأكولات والملبوسات والسيارات بل حتى للأدوية! شركات الأدوية لها نفوذ ضخم وتتنافس بشراسة، وبسبب نفوذها فهي تفرض على الناس بما في ذلك حكام البلد ما تريد سواءً أسعار باهظة لأدوية السرطان (أضعاف الأدوية المصنوعة في الهند مثلاً) أو حتى السماح لهم بأن يعلنوا منتجاتهم للناس، وبعد أن كان الطبيب هو الذي يصف الدواء للمريض صار المريض الآن يذهب للطبيب ويقول: اكتب لي الدواء الفلاني في وصفتك، فقد أعجبتني دعايتهم!
ليس هذا غريباً، فأمريكا أصلاً دولة خرجت بسبب المال، وإن كان فيه حق. كيف نشأت؟ بعد أن فتح الإيطالي كولومبوس أعين الأوروبيين على القارة الأمريكية الشمالية بدأ الانغليز يُبحرون ليتخذوا القارة الجديدة وطناً، فاستعمروا البلاد وقتلوا أهلها الأصليين وأنشأوا عدة مستعمرات، وبما أنهم انغليز فهم يتبعون سلطة الدولة الانغليزية، وكانت الدولة تفرض ضرائب باهظة على المستعمرات لتموّل حروبها حول العالم، والامبراطورية الانغليزية احتلّت عدداً كبيراً من بلدان العالم واحتاجت الكثير من المال، فلما ضاقت المستعمرات الأمريكية ذرعاً بهذه الضرائب (خاصة وأنهم حُرِموا التمثيل السياسي فلم يكن لهم صوت في البرلمان) فحينها ظهرت الثورة الأمريكية، وبعد فترة من الحرب رضخت بريطانيا واعترف العالم بالدولة الجديدة: الولايات المتحدة.
نرى إذاً أن المال هو السبب الرئيسي لظهور أمريكا أصلاً للعالم.
ختاماً نرى المثال الأخير، ففي وثيقة إعلان الاستقلال التي صيغت بعد استقلال أمريكا ظهر تأثُّر منشئي الدولة بفلسفة آدم سميث، مؤسس مفهوم السوق الحرة، وأتى في الوثيقة عبارة مستوحاة من كتابات سميث وتقول إن لكل إنسان الحق في الحياة والحرية واتّباع السعادة، لكن كلمة «اتباع السعادة» أو «البحث عن السعادة» معناها الحقيقي السعي وراء الممتلكات وخاصة الأراضي! وكانت هذه أول عبارة في الوثيقة بعد الفقرة الاستفتاحية.