عملية باريس التي استهدف فيها الإرهابيون مجلة ساخرة فرنسية وخلفت أكثر من 12 قتيلا وعددا كبيرا من الجرحى، سيكون لها على المدى المتوسط والبعيد، أسوأ الأثر على الصورة النمطية للإسلام، وعلى صورة المسلمين، ليس في الغرب فحسب، وإنما في جميع أجزاء العالم. وأنا هنا لا أقلل من محاولات بعض الغربيين الإساءة للمعتقدات الإسلامية، ولا لرموز الإسلام، التي يبدو أن هذه المجلة الفرنسية الساخرة أقدمت عليها في الماضي، لكن هناك أساليب وطرق أخرى أعمق أثرا وأجدى وأكثر احتراما من هذا الفعل الإرهابي القميء.
نعم هناك بعض الإعلاميين الغربيين ممن لا يحترمون في أعمالهم الإعلامية مشاعر المسلمين، ويتعمدون استفزازهم من خلال الإساءة إلى مقدساتهم، والسخرية منها، والتعرض إليها بالنقد والامتهان، لكن ما هكذا يتم الاعتراض، ولا بهذه الطريقة تواجه هذه الإساءات، فحرية التعبير في الغرب، وفي فرنسا خاصة، التي تمارس هذه المجلة عملها متظللة بمظلتها، ليست مطلقة، ولا غير محدودة، وإنما هناك قوانين فرنسية مرعية تضبط هذه التجاوزات، وهناك محاكم، وهناك ضوابط حازمة وقوية؛ متى ما تجاوزتها هذه الإصدارات، تنتقل من القبول إلى المنع، فالعقاب بأشد العقوبات تنتظر مثل هؤلاء المتجاوزين، خاصة إذا كان العمل الإعلامي ينطوي على المساس بالسلم الأهلي بين المواطنين الفرنسيين أو غيرهم. والمسلمون الفرنسيون هم ثاني أكبر فئة دينية بعد المسيحيين، ولا يمكن لأي قاض، ناهيك عن مشرع فرنسي، إلا ويأخذ ذلك في الاعتبار، عندما يرى أي تجاوزات من هذا القبيل من قبل من يحاولون الإساءة للأديان ورموزها. غير أن من يتذرعون بنصرة الإسلام، والدفاع عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلَّم - لا يهدفون إلى نصرته، ولا نصرة دينه، لكنهم يهدفون إلى تفجير الصراعات الدينية والمذهبية والفئوية بين بني البشر. وكل من يعتقد أن مواجهة هذه التجاوزات لا يكون إلا بالإرهاب والتخويف والعنف وإراقة الدماء، فهو إما أن رؤيته المستقبلية لا تتعدى طرف أنفه، مثل بعض صحويينا، أو أنه يتعمد الإساءة للإسلام عن سابق تصور ورؤية وتصميم.
تجاوز الحريات، وإثارة النعرات، من أي نوع كانت، تواجه في تلك الأصقاع بالقانون، ومن خلاله تدافع على أرض الواقع، وبطريقة عملية ومحترمة، عن مقدساتك، وعدم المساس بها؛ أما أن تتعامل مع الإساءة، من أي نوع أو شكل كانت، بالسلاح والعنف، فسوف ترتد على دينك وأهلك وذويك.
خذ الصهاينة مثلا، وانظر كيف يفرضون احترامهم واحترام معتقداتهم وعدم المساس بها في الغرب؛ فلا تجرؤ هذه المجلة أو غيرها أن تتعرض ولو بالتلميح لقضية (الهولوكوست) ويشكك في صحتها، رغم أنها قضية تاريخية، قد تكون صحيحة، وقد تكون مختلقة، ومع ذلك استطاع الصهاينة أن يجعلوها حقيقة، واقعة، والمساس بها يعني المساس بهم وبوجودهم، ووسيلتهم لتحقيق ذلك التشريع والقضاء وملاحقة من يجرؤ على التشكيك بصحتها؛ والسؤال : هل فرضوا ذلك بقوة الإرهاب والتخويف والاغتيالات، أم بقوة القانون، ومن تحت قبب البرلمانات والمحاكم.
ليس لديّ أدنى شك أن اليمين المتطرف في الغرب عموماً، وفي فرنسا على وجه الخصوص، سيستثمر هذه القضية جيدا، ومن خلالها ستتسع شعبية هذه الأحزاب العنصرية البغيضة، أما الذي سيدفع الثمن في نهاية المطاف فهو الغربي المسلم. وأكاد أجزم أن الغرب لن يسكت عن هذه الممارسات التي بلغت حدا لا يمكن السكوت عليه، ولديهم من الوسائل (غير القوة العسكرية) التي بها يتفوقون، الكثير والكثير جداً.
الغرب والغربيون لا يتخذون قراراتهم على عجلة وإنما بتمهل وروية، لذلك غالبا ما تكون إجراءاتهم الاحترازية، محكمة، وقاصمة، وأخشى ما أخشاه أن تتكرر هذه العمليات الإرهابية البشعة، سببا لمزيد من الأنظمة والقوانين التي من شأنها الإضرار بمصالح المسلمين هناك.
إلى اللقاء