{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
هذا هو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر كما سمَّاه الله عز وجل، لأنه فيه تمام أعمال الحج، وأكثر شعائره، فتقبَّل الله من الجميع صالح القول والعمل.
إن هذا المشهد العظيم لأفواج الحجاج مقصد عظيم من مقاصد هذا الركن الإسلامي في توحيد الكلمة على كلمة التوحيد ودعوة الناس جميعاً لإخلاص العبودية لله عز وجل وحده، {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
وفي هذه الأيام جلاء لمعنى من معاني الوحدة وتربية المسلمين عليها فالدعوة والدين واحد، والقبلة واحدة والوجهة واحدة واللباس واحد والمكان واحد، ولهذا شرع الإسلام فريضة الصلاة خلف إمام واحد اتباعاً له: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)، وذلك لا يعني طمس شخصيات الناس وتعدديتهم، بل يعني بوضوح الاعتراف بها ضمن ترتيب وتنظيم دقيق يعيد للمسلمين انتظامهم ووحدتهم، وانظر إلى المسلمين وهم في الحرم المكي يصلون خلف الكعبة مستديرين حولها؛ دلالةً على الفروق والاختلافات وإلى نوع من التعددية التي تقوي الصف وتساعد على التنظيم والوحدة والاجتماع، فطبيعة المفهوم والآراء تختلف باختلاف الناس، وإنما المقصود هو وجود أصل الاجتماع على المبدأ الأساسي وعلى حقيقة العبودية لله عز وجل.. يقول الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، فبين المسلمين في أيام الحج ويوم الحج الأكبر عوامل اتفاق كبيرة، وثمة قضايا خلافية ينبغي أن نعترف بها ونستوعبها في إطار من حفظ الحقوق ورعاية الآخرين، وفتح المجال للآراء المختلفة ما دامت ضمن نطاق الشريعة العام، وفي جو من العلمية والموضوعية، فالصحابة يختلفون، بل اختلف الأنبياء كما اختلف موسى والخضر، واختلفت الملائكة كما في حديث الرجل الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والفقهاء والعلماء المسلمون في التاريخ الإسلامي اختلفوا في قضايا كثيرة، بل وضعوا منهجاً للخلاف ودراسة الخلافات، فهم بقدر ما يعترفون بهذا النوع من الاختلاف تراهم يجعلون ذلك وسيلة للاتفاق حول طريقة معالجة هذه الخلافات وتفعليها، بل وجعل قضايا الخلاف في العبادات والمناسك مجالاً رحباً للتشاور والحوار، واستغلال أيام الحج لجعله مؤتمراً عالمياً لتأكيد معنى العبودية في ذلك، ومعنى الوحدة والائتلاف، دونما جدل أو مراء حول أوامره، يقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، ولا يزال بعض المسلمين اليوم يمتلك جاهزية كبيرة للتفرُّق والاختلاف المذموم، يصبح المرء بعدها مصدراً لإنتاج التهم والألقاب، وقد تكون تلك المخالفة في الأصل جزئية أو صغيرة، وربما مما لم يرد فيها نص، ومع ذلك تجد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وسوء التربية تجعل الناس يسرفون في تفعليها، فتأخذ القضية أكبر من حجمها، حتى تكبر في صدورنا وأنفسنا وتحول إلى قناعات تجعل بيننا وبين إخواننا المسلمين أنواعاً من الحواجز والأسوار الرفيعة، في موطن عالمي عظيم، وفي مشهد نسكي كبير، مثل هذه الأيام التي ينبغي أن ننظر فيها إلى الناس على أنهم ثمرة النداء الرباني لهم لأداء الحج، وأنهم الاستجابة لذلك الأذان الجهير، {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ}.
إن الحج مدرسة للعبادة ومدرسة للأخلاق ومدرسة للحقوق ومدرسة للوحدة والائتلاف ومدرسة للحياة، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
إن الله عز وجل يُعلِّمنا كيف نحيا، ولمّا ذكر الله عز وجل الذين يدعونه في الحج حينما يفيضون ويقضون قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ. وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ؟}، فالمؤمن يسعى لخير الدنيا (الحياة) ولخير الآخرة، ويقول الله عز وجل في الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}، والفضل هنا هو التجارة، والصحابة رضي الله عنهم كانوا تجاراً، وكانوا هم السابقين إلى الأجور والعمل الصالح، مرَّ عمر بن الخطاب على سعد بن أبي وقاص وهو يضرب الأرض بمسحاة معه فقال له: ماذا تصنع؟ قال: ألم تسمع ما قاله صاحبكم أحيحة بن الجلاح؟ يقول: