| |
خصائص البلد الحرام وفضائل الحج ومقاصده سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (*)
|
|
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد: فإن الله تعالى يقول: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ.....} الآية، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم مادام في الأرض دين وما حج عند الكعبة حاج، وعندها المعاش والمكاسب. هذا البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}. وهو في وادٍ غير ذي زرع، وضع فيه إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل وأمه ودعا ربه متضرعاً: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام دعا ربه عز وجل أن يجعل ذريته موحدين مقيمين للصلاة التي هي من أخص وأفضل العبادات الدينية، ودعاه أيضاً أن يجعل أفئدة - أي قلوباً - من الناس تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه. فأجاب الله تعالى دعاء خليله، فأخرج من ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين وإمام الموحدين، فدعا إلى الدين الإسلامي وإلى ملة إبراهيم، فاستجابوا وصاروا مقيمين للصلاة. وافترض الله حج هذا البيت وجعل فيه سراً عجيباً جاذباً للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطراً على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد إليه شوقه وعظم ولعه وتوقه. وجعل سبحانه هذا البلد أيضاً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إلى إجابة لدعوة خليله عليه السلام وفضلاً منه سبحانه على هذا البلد الحرام وأهله. ومن خصائص هذا البلد أيضاً أنه بلد حرام حرمه الله. ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها)، متفق عليه. ومن خصائصه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما عداه. فعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وإسناده صحيح، وصححه ابن عبدالبر، وحسنه النووي في شرح مسلم. وأصل الحديث في مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه من دون زيادة: وقال أيضاً بعد أن ساق الحديث مرفوعاً من طريق حبيب المعلم: وليس في هذا الباب عن ابن الزبير ما يحتج به عند أهل الحديث إلا حديث حبيب هذا. وقال: ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه قوي ولا ضعيف ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد. ومن خصائصه أنه لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد هو أحدها. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). ومن خصائصه أن شرع الله لعباده الحج إليه، وأمر خليله بتطهيره من الأدناس وأعظمها الشرك بالله، وأمره بالأذان في الناس ليحجوا بيت الله، يقول تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وقال عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...} الآية. والمنافع في هذه الآية في منافع الدنيا والآخرة كما قال مجاهد -رحمه الله. وفضائل الحج كثيرة قد وردت بها النصوص، فمنها الآية المتقدمة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا قال: (حج مبرور) متفق عليه. وحين قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور) رواه البخاري. واختلفت عبارات السلف في تفسير الحج المبرور، فمنهم من قال: الذي لا يخالطه إثم، ومنهم من قال: الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق، وقيل: الذي لا معصية بعده، يجمعها أنه الذي يؤدى تقرباً لله وطاعة له خالصاً من أدران الشرك صغيره وكبيره والبدع والمعاصي، ويكون حاملاً لصاحبه على إحسان العمل بعده. ومن كانت هذه صفة حجه كان مقبولاً مأجوراً، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه، وفي رواية لمسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث...) الحديث، وهذه الرواية أعم من التي قبلها. والرفث: قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إنه الجماع، والفسوق قالا: إنه المعاصي. (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجاه في الصحيحين. إخواني، ليس المقصود من الحج مجرد إتعاب البدن أو بذل المال، إنما المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى وما يحصل في القلب ويقوم به من معاني العبودية والخضوع والانقياد لأمر الله وتعظيم شعائره، يقول الله تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }، ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }، ويقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). إخواني الحجاج، إنكم قد قدمتم هذا البلد الأمين طائعين لله راغبين فيما عنده، فاستغلوا هذا الموسم في الازدياد من الطاعات، والإكثار من القربات والبعد عن المعاضي والمنكرات، احرصوا أن يكون حجكم سالماً من المخالفات الشرعية حتى تكونوا ممن كتب الله لهم حجاً مبروراً. والحج أيضاً فرصة للتعارف بين المسلمين وتدارس قضاياهم، فإن هذا هو ديدن المسلمين، فإنهم كما قال صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً) أخرجه البخاري وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. إخواني الحجاج، أوصيكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، والاجتماع على الحق، وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية، تجنبوا الشقاق والجدال فيما لا فائدة فيه، فإنه يورث الخلاف والنزاع وتفريق صف المسلمين. عظموا هذا البلد الحرام واعرفوا له قدره وحرمته، وإياكم والسعي فيما يخل بأمنه أو يعكر صفو هذه الشعيرة العظيمة، فإن هذا من أعظم الجرم، وقد توعد الله من هم بذلك ونحوه بالعذاب الأليم، قال تعالى (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، هذا في حق من أراد ولم يفعل فكيف بمن فعل والعياذ بالله. ثم ينبغي لكم حجاج بيت الله التقيد بالأنظمة التي وضعتها الدولة؛ لأنها إنما وضعت للمصلحة العامة، تسهيلاً لضيوف بيت الله، حتى يؤدوا مناسكهم بيسر وسهولة، آمنين مطمئنين، فعلينا جميعاً التعاون مع المسؤولين بالالتزام بهذه الأنظمة وعدم الإخلال بها. هذا والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يرضيه، وأن يمن علينا بفضله ورحمته، ويعين حجاج بيت الله على أداء مناسكهم في أمن ويسر وسهولة، ويجعله خالصاً لوجهه سبحانه، مقبولاً مبلغاً لمرضاته، وأن يوفق حكومة خادم الحرمين الشريفين ويجزيها عن المسلمين خير الجزاء على ما يولونه لحجاج بيت الله من خدمات لتسهيل أداء هذه الشعيرة وما بذلوه ويبذلونه في الحرمين الشريفين والمشاعر من مشاريع عظيمة نافعة قد لمس نفعها كل من حج أو اعتمر، فجزاهم الله عن المسلمين خيراً وأعانهم وسددهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليماً كثيراً.
(*) المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
|
|
|
| |
|