لا أظن أنّ طلاباً يختزنون من الذكريات الجميلة عن مدرستهم، كما يختزن طلاب مدرسة ابن عباس الابتدائية بالدلم في الفترة التي درست فيها المرحلة الابتدائية.
سيقول كثير بأنّ هذه مبالغة، ولهم ذلك، ولكن هكذا أظن، أو على الأقل هو إحساس شخصي، فرغم مرور السنين فإنّ ذكريات الغدو والرواح لتلك المدرسة، وإدارتها والنخبة الأجلاء من أساتذتها، وفصولها الدراسية، وساحاتها الواسعة لا تزال حاضرة في الذهن، حية في الخيال.
دلفنا لتلك المدرسة ودرسنا في مبنى مدرسي حديث، وكانت المباني في الدلم كلها آنذاك طينية، فكنا نحس بالتميُّز بذلك المبنى الذي لا يماثله مبنى في أعيننا، وكذا ينبغي أن تكون المدارس أفضل من البيوت، وأرحب، وأجمل، وأحسن، ليحبها التلاميذ، ويشتاقوا إليها.
وكان المبنى الطيني القديم للمدرسة لم يهدم بعد، فكنا ننظر إليه وفي الأذهان إحساس بالتطور الذي ينتظر بلادنا الغالية، وتفاؤل بمستقبل سعيد مع هذا المبنى الجديد.
وكان مبنى المدرسة الحديث مكوناً من ثلاثة طوابق .. الأول لطلاب السنتين الأولى والثانية، والثاني لطلاب السنتين الثالثة والرابعة، والثالث لطلاب السنتين الخامسة والسادسة، وكان لهذا أثر على نفوسنا، وترقب للصعود للطوابق العليا الذي يعني الترقي في المستويات الدراسية.
وكنا في الصفوف الأولى نسمع عن أساتذة متميزين في الصفوف العليا، ونترقب اليوم الذي نصل فيه إلى تلك الصفوف، لنتتلمذ على أولئك الأساتذة .. ومن هؤلاء أستاذنا القدير والمربي الكبير سعيد بن سعد بن ذياب الذي فقدناه، ونُعي إلى طلابه ومحبيه يوم الثلاثاء الموافق 21-11-1427هـ وصلِّي عليه في جامع ابن باز، ودُفن في مقبرة الدلم المجاورة لمدرسته التي أمضى فيها معظم سني حياته الوظيفية.
لقد كان - رحمه الله - آنذاك يُدرِّس مواد اللغة العربية في الصفين الرابع والخامس، وكان صموتاً وقوراً، ذا شخصية متميزة، وكان شغوفاً بالقراءة، مشجعاً عليها.
يدخل الفصل وعلى قسماته الجد، فيؤدي درسه بنشاط، وتنظيم بديع للسبورة يعينه خط جميل، ويتابع طلابه متابعة جادة يسيطر على الفصل بحزمه وهدوئه، له تأملات ونظرات وفراسة، يشجع المجتهد، ويحفز المقصر، ويضيق ذرعاً بالإهمال.
دَرسُ التعبير الذي يضيق به كثير من الطلاب والمدرسين يُحَوِّله الأستاذ سعيد إلى ساعة من ساعات التدريب الماتعة، فتجد الطالب يستفيد منه مهارات الإلقاء، وحسن الخط، وسلامة الكتابة، والقدرة على التعبير، والتدرب على الحوار، ناهيك عن درس النحو، والقراءة والإملاء.
أستاذنا سعيد - رحمه الله - وقور، يُكسبه صمته، وعدم خوضه فيما لا يعنيه، زيادة في هذا الوقار، ويجبر المتعاملين معه على احترامه.
أستاذنا سعيد - رحمه الله - هادئ الطبع، هيّن، ليّن، في وقار وهيبة.
أستاذنا سعيد - رحمه الله - صاحب ذوق رفيع، في حديثه، وصداقاته، وعلاقاته، وحتى في ملبسه، ومظهره، يحب التنظيم، والترتيب، ويربي تلاميذه على ذلك، ويتابعهم متابعة دقيقة، ويشجع الطلاب المتميزين، المهتمين بالنظافة والترتيب، ويضيق بالفوضى والعبث.
أستاذنا سعيد - رحمه الله - جاد في تدريسه، وفي توجيهاته، وفي مهنته التي تفرّغ لها، وهو في هذا أنموذج لتوحيد الجهد، والإخلاص في العمل.
أستاذنا سعيد - رحمه الله - مخلص في عمله، دؤوب، لا ترى منه تضجراً، ولا سأماً، لذا نمّى في كثير من طلابه هذه الخصلة بالقدوة أولاً، ثم بالتوجيه المباشر، كقوله: