| |
حديث الروح وروح الحديث العيد بين التمني والترجي د. أحمد قاسم كسار (*)
|
|
في اللغة العربية يفرّق النحاة بين التمني والترجي، فيجعلون الأول للمستحيلات، والثاني في الممكنات، ويخصصون كذلك الأداة (ليت) للتمني، و(لعل) للترجي. فمن شواهد المستحيلات أمنية الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب ف(ليت) هي حبيسة اللسان، وأمنية الجنان، فلا تعيد ماضياً، ولا تغيّر واقعاً وحالاً. وقد أحسن من قال: ليتَ وهل ينفعُ شيئاً ليتُ ليتَ شباباً بوع فاشتريتُ وأما (لعلّ) فإن رجاءها مستطاع، وتحققها ممكن إذا أراد الله وشاء، فهي سلوة المكروبين، وأمل اليائسين، ومفتاح الصابرين، وباب القانطين، ودعوة المضطرين، وهي أخت ل(عسى) وكلتاهما مما يؤمل حصوله. فقد أعطانا اللغويون - جزاهم الله خيراً - مفاتيح أبواب السماء للولوج في طلب الحاجات وسؤال الأشياء واستحصال الأمور، فلك أن تستعمل (لعل) أو (عسى) للتنفيس عما هو متحشرج في صدرك، أو ضائقة به نفسك، أو متطلع إليه قلبك، فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً، أو عسى ربنا أن يفتح علينا وهو خير الفاتحين. ومن الاستعمالات اللغوية لذلك المثال السلبي الذي ضربه الله لنا في فرعون، فقد كان يتصور هذا الطاغية أنه بإمكانه أن يطلع إلى إله موسى، وأن يراه، حينما طلب من هامان أن يبني له صرحاً مرتفعاُ في السماء فقال: {..لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى..} فاستعمل (لعلّ) التي تدل في أبسط معانيها على ترجي حصول الشيء، ومن الأمثلة الإيجابية ما جاء على لسان يعقوب - عليه السلام - الذي لم ييأس من رَوح الله حين فقد ولديه فقال: {..عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا..} فاستعمل (عسى) التي توصله بأسباب قد يكون تعلقه بها مدعاة لحصوله عليها. فمن هنا انفتحت لنا أبواب لنترجى رحمات الله ونستنزلها، وأن نتطلع إلى رزقه - سبحانه - وخيره وأمره كله. وليس معنى أن أهل اللغة أجازوا لك الترجي ولم يجيزوا لك التمني، بالعكس، فباب التمني مفتوح أيضاً للترويح عن القلوب، فالأماني لا تحصل ولا تتحقق أبداً ولكن لا تخلوا من فوائد. فقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً في الذين تمنوا أن يكوا مثل قارون في ثروته وماله فقالوا: {..يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظ عَظِيمٍ}، ولكنهم لم يعلموا أن دوام الحال من المحال، فلما رأوا الخسف الذي أصابه والعذاب الذي حلّ به قال الله عنهم: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا..}. إذن أنت تتمنى شيئاً والله يمنّ عليك بشيء آخر، ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، وقد أجاد من قال: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وقد جلس ذات يوم الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع نفر من أصحابه في مجلس من مجالس الأحلام والآمال السامية فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون عندي ملء هذا الوادي ذهباً فأنفقه في سبيل الله، وقال الآخر: أتمنى أن يكون عندي ملء هذا الوادي خيلاً أتصدق بها في سبيل الله، فقال عمر - رضي الله عنه -: أتمنى أن يكون عندي ملء هذه الغرفة رجالاً كأبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة. فهذه القصة دليل على جواز التمني مع العلم بعدم حصوله، وذلك لما فيه من بعض الدروس في استنهاض الهمة، وشحن الطاقات، ورفع لمعالي الأمور. إذ إن المطالب لا تأتي بالتمني وإنما بالعمل والسعي والمثابرة والجد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل)، وقال الناظم: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا إذن التمني والترجي مقرونان بهمة الشخص وعمله وتوجهه، فلك أن تتمنى أشياء، وتترجى أموراً، ولكن بما فيها من ممكن مستطاع أو رغبة لا تخلو من فائدة دون انقطاع. كما وأننا نفيد من التمني الاعتبار من الماضي وأخذ الدرس منه، ونفيد من الترجي أخذ الاستعداد للمستقبل والعمل له، ونفيد منهما - أيضاً- في مجال التعبد والتقرب إلى الله سبحانه، واستغلال الأوقات بما ينفعنا، فضلاً عن جانب التفكر والتدبر وتطييب الكلام فيهما. أخي القارئ: أشعر بأنني ابتعد عن موضوع العيد الذي قرأته في عنوان مقالتي، وأخشى أنني أطلت الكلام في موضوعي التمني والترجي، واستطردت بك في عالم الخيال والفكر واللغة... الخ، فأعود بك إلى موضوع العيد - أعاده الله علينا وعليكم باليمن والخير والبركات - (هذا من الترجي - إن شاء الله -). فأقول: اعتدنا في أعيادنا أن نتبادل التهاني والأماني وندعو لبعضنا، ونترجى ونأمل فيما بيننا. فنقول للأعزب: (عريس إن شاء الله)، ونقول للمتزوج: (الولد الصالح إن شاء الله)، أو: (على جبل الرحمة بعرفات إن شاء الله)، ونقول للطالب: (من الخريجين المتفوقين إن شاء الله)، ونقول للمريض: (الشفاء العاجل بإذن الله)، ونقول للصحيح: (دوام الصحة والعافية بعون الله).... وهكذا. وتتكرر مفردات التوفيق، والموفقية، والوفاق، والنجاح، والسلامة، والعمر الطويل، والبركة، والسعادة، وغيرها في تراكيبنا العيدية، ولا بدّ أن أشير إلى أن السنة النبوية المطهرة علمتنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهنأ أصحابه ويعايدهم بالقبول، فكان يدعو لمن يسلم عليه ويقول له: (تقبل الله منّا ومنكم). وفي هذا الدعاء النبوي إشارة إلى أن تتعلق دعواتنا بالله واليوم الآخر، وأن تعلو تهانينا نحو معالي الأمور، وأن تسمو أمانينا ويرتفع رجاؤنا نحو المستقبل الدائم، والحظ الأكبر والأوفر، نعم، الناس بهم حاجة إلى الموفقية في الدنيا، ولكن للآخرة نصيب أعلى وأبقى. فتأمل للناس أن يتقبل الله منهم صالح الأعمال، وأن يجعلهم من المقبولين، وأن يكتب الله لهم قبول ما قدموه من الطاعات، هذا إذا علمنا أن أكثر الأماني والتهاني والتبريكات يكون موسمها بين المسلمين في عيد الفطر وعيد الأضحى، وكلا العيدين بعد أيام عبادة وأيام بر وخير ومعروف. فيجب أن نسمع في أعيادنا الهمم العالية، وعلى الناس أن يتمنوا لمن يسلمون عليه ويصافحونه ويعايدونه ويترجون له كلمات أحلى من الشهد، وأبيض من اللبن، وأصفى من الماء، كلمات ذات معانٍ سامية، ودعوات صادقة، ومشاعر طيبة. فقد سلمنا على بعض أخوتنا في العراق في أعياد مضت وأيام ومناسبات خلت فكانت دعواتهم للآخرين بمثل ما هو آت: (الشهادة في سبيل الله) وما أحلاها من دعوة، أو: (النصر على الأعداء) وما أجملها من طلب، أو: (التمكين في الأرض والاستخلاف عليها) وما أطيبها من رجاء، أو: (الفوز بالجنة والنجاة من النار) وما أفضلها من فوز وسعادة، أو: (خروج المحتل أو إخراجه) وما أسعدها يومئذ من فرحة. فهكذا نريد أن تكون أمانينا وتهانينا وتراجينا عالية بعلو السماء، وواقعية بحاضر الأمة وهمومها، ومعايشة للآمال الشباب المتطلع نحو الفضائل والمعالي، ومتعلقة بحبل الله المتين، ومتطلعة إلى آخرة باقية وفضل كبير، ولا بأس أن لا ننسى أنصبتنا في هذه الدنيا من الرزق الحلال والتوفيق والهداية والعلم النافع والعمل الصالح والحياة الطيبة السعيدة فكلها من أسباب الآخرة ومتطلباتها للفوز بالدارين.
(*) ماليزيا
|
|
|
| |
|