| |
هي الأضخم؟ .. فيا لعظم المسؤولية د. صالح بن سبعان *
|
|
هي الأعلى في تاريخ المملكة الاقتصادي بفضل من الله، وتزيد على ميزانية العام السابق بـ(45) مليار ريال. حيث وصلت إيراداتها العامة إلى (400) مليار، خصصت منها (380) مليار كمصروفات، مما يعني توقُّع فائض في موازنة العام المقبل بحدود (20) ملياراً. وإذا كانت موازنات الدول لا تُقيَّم بحجم إيراداتها العامة، ولا بحجم نفقاتها فقط، وإنّما بكيفية توظيف هذه الإيرادات وتوجيهها، فإنّ ميزانية العام المقبل اتجهت مباشرة لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية وهي: تخفيض الدَّيْن العام، دعم التنمية المتوازنة بين المناطق، رفع معدّلات النمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل جديدة. بالنسبة للهدف الأول فقد تم توجيه أكثر من ثلث الموازنة لسداد الدَّيْن العام بعد أن نجحت الموازنة العامة للعام المالي الحالي في تقليصه إلى ما نسبته (28) في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كما تم اعتماد (140) ملياراً للمشاريع التنموية والخدمية لتحقيق التنمية المتوازنة في المناطق. وقد نال التعليم نصيب الأسد في مخصّصات هذه الميزانية باعتبارها البوابة الحقيقية لتنمية الموارد البشرية القادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية والرقي الاجتماعي والتطور الحضاري الكفيل بالارتقاء بهذا الوطن المعطاء، ووضعه في السياق اللائق به وبأهله وبرسالته التي نذر نفسه وموارده لها. وإذا ابتعدنا قليلاً عن لغة الأرقام الباردة اقتراباً من تفاصيل الواقع اليومي، فإنّ الميزانية وظفت مواردها في مواجهة الجهل والفقر والمرض. وإذا أخذنا حصة التعليم فقط في هذه الميزانية سنجد أنّها، وفي سبيل رفع مستوى القدرات والمؤسسات التعليمية وزيادة استيعابها للطلبة مع استمرار برنامج الابتعاث، قد اشتملت على افتتاح أربع جامعات جديدة في الباحة وتبوك ونجران وجامعة للبنات في الرياض. كما حظيت الجامعات الأخرى بإنشاء وتجهيز (56) كلية جديدة وافتتاح (19) كلية، وإنشاء وتجهيز (19) مبنى للكليات والمعاهد التقنية والفنية والمهنية للبنين والبنات، وافتتاح (14) معهداً فنياً، وإنشاء وتجهيز (2) ألف مدرسة للبنين والبنات، وغيرها من المشاريع التي خصصت لدعم التعليم والقفز به إلى أعلى وأرقى المستويات. هذا عن قطاع التعليم فقط. ولكن .. من يقرأ تفاصيل هذه الميزانية الأضخم في تاريخ المملكة، لا يملك سوى أن يمسك بقلبه خوفاً. لماذا الخوف؟ يأتي الخوف من أنّ هذه الميزانية طرحت أمام جميع المواطنين، وأمام المسؤولين منهم بوجه خاص تحدياً، لا أدري كيف يستطيعون لمواجهته والتصدي له ولمسؤولياته .. فالقاعدة في دول العالم هي أن يشتكي هذا القطاع أو ذاك من قلة الموارد المخصصة له في ميزانية الدولة العامة، كإجابة جاهزة و(مبلوعة) - أي مبررة - لهذا القصور أو ذاك، أو هذا العجز أو ذاك، أو التدهور في هذا القطاع أو ذاك. إلاّ أنّ ولاة الأمر ظلوا على تعاقبهم في تحمُّل مسؤوليات الوطن، يسدون ويغلقون أبواب هذه الذرائع بصرفهم الذي يكاد أحياناً يكون مبالغاً فيه على كل القطاعات من موارد الدولة. وحين يُواجَه مسؤول بالنقد للقصور والتقصير، فإنّه يستطيع أن يلوذ بكلِّ ذريعة ممكنة، عدا ضعف أو شح أو قلّة الموارد المخصصة للقطاع المسؤول عنه. وكلنا يعرف حيلة تلجأ إليها بعض القطاعات كلما أزمعت الدولة إغلاق ملف موازنة جارية وتصفية حساباتها لفتح موازنة جديدة، إذ يلجأ بعض المسؤولين إلى (تصغير) مخصصات القطاع أو المؤسسة في الميزانية، وذلك بالإنفاق المنفلت والذي يهدف إلى صرف كل المخصصات حتى لا يُتّهم بأنّ تقديراته لاحتياجات القطاع المعيَّن لم تكن دقيقة وواقعية. حسناً، نعود مرة أخرى إلى التحدي الذي تطرحه هذه الموازنة .. قلنا من قبل إنّ القاعدة الصحيحة في تقييم الميزانيات ليس هو حجمها وحجم مواردها الكمي، وإنّما لا بد من إمعان النظر في كيفية توظيف هذه الموارد وتوزيعها، وهل هو توظيف تنموي، بمعنى أنه يساعد على تفعيل التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية، أم أنه توظيف بذخي فارغ يغفل أهم عاملين تنمويين وهما تنمية الموارد البشرية ووضع مشاريع قادرة على النمو والتوسع والتوالد، فترفع في معدلات النمو الاقتصادي من ناحية، وتفتح - من ناحية أخرى - المزيد من فرص العمل الجديد أمام القوى العاملة الوطنية المتنامية كمّاً ونوعاً، وتساعد على تقليص العطالة تفعيلاً لكلِّ السواعد القادرة على العطاء. إلاّ أنّ كل ذلك يتوقف على شرط، أو تحد يتمثّل في مدى قدرة المسؤولين على إنفاذ ما اعتمدته الميزانية من موارده في سبيل تحقيق هذه الأهداف الوطنية العليا، ومدى قدرتها على إنفاذ ما تقرر واتُّفق عليه بين طرفي: ولي الأمر والمواطنين، وجعلِه واقعاً متحققاً وملموساً على أرض الواقع. هذا هو التحدي الذي يجب أن يقلق المسؤولين في هذا البلد، بل ويقلق كافة المواطنين، لأنّ أنفاذ أهداف الميزانيات مسؤولية جميع المواطنين، كلٌّ في موقعه. نقول هذا وننبِّه إليه بإلحاح، لأنّه ما من جديد أو غير متوقع في روح هذه الميزانية، وأن اختلافها عن خطط التنمية السبع السابقة إنما هو اختلاف في الكم وليس في النوع، هو اختلاف مقدار، بحكم أنها - أي هذه الميزانية - هي الأضخم من سابقاتها، ولكنها الأضخم من حيث الكم، وأما تركيزها على الخدمات بهذا الشكل فإنما يأتي استكمالاً لما تقرّر في الموازنات السابقة. أمّا ما يجمعها مع سابقاتها فهو روحها والفلسفة التي تصدر عنها موافقة المقام السامي عليها واعتمادها. فقد درج ولاة الأمر, ومنذ تأسيس هذه الدولة يعطون بسخاء لا محدود للارتقاء بالوطن وخدمة المواطن، والعمل على تأمين احتياجاته الحياتية وتلبية طموحاته، إلاّ أنّ التنفيذ كان دائماً هو علّتنا المزمنة. ويخيّل لي الآن أنّ السبب في ذلك يرجع إلى عدم محاسبتنا لأنفسنا، ومساءلة المسؤولين بعد انقضاء العام الاقتصادي الجاري، عن ما تحقق في خطط الوزارة أو المؤسسة أو القطاع الذي يديرونه وما لم يتحقق، والتدقيق في تفاصيل ما صُرف على ما تحقق من مشاريع. وما أراه أننا نفرح كلَّ عام بكلِّ ميزانية تعتمد، ثم نكتفي بالإشادة والثناء، ثم تتبارى الأقلام في الغناء بمحاسن الميزانية الجديدة ووصف مفاتنها. ولكن لا أحد يتذكّر في حفل الفرح هذا ميزانية العام الجاري التي توشك على الانتهاء، أو ميزانية العام السابق لها. لا أحد يسأل ما الذي تحقق من أهدافها وبرامجها .. وما الذي لم يتحقق؟ أو يسأل لماذا لم يتحقق؟! والآن ونحن نحتفل بهذه الميزانية، وهي تستحق أن يحتفى بها لأنها تعكس طموحات ولاة الأمر والمواطنين وتعبِّر عنها، يجب أن نحضر في ذاكرتنا بشكل جيد وواضح أهدافها وبرامجها وما تعدنا به، حتى نجري حساباتنا العام القادم إن شاء الله لنتبين ما أُنجز وما لم ينجز منها. أما التحدي الأخير فيتمثّل في الآتي: لقد وفّى ولي الأمر خادم الحرمين بما وعد كما هو شأنه دائماً .. لقد وعدنا بالخير في هذه الميزانية قبل أن يطرحها بين يدينا .. وتدفقت من خلالها عطايا الوطن من موارد، وتبقى الكرة الآن في ملعبنا .. هل تنم ترجمتنا ما على الورق من أرقام هائلة وكبيرة على أرض الواقع أعمالاً تطابق ما عليه، وتتطابق مع أحلامنا، وتجسِّدها واقعاً ملموساً؟! أعني بذلك: هذه المشاريع التي اعتمدت قد تُنشأ وتقوم على الأرض كمبانٍ ومنشآت، ولكن هل ننجح في بث الروح، وشحنها بالمضامين التي تجعلها تؤدي الوظيفة المنذورة لها، والهدف الذي من أجله قامت وأنشئت، أم تظل مجرد مبانٍ وواجهات جميلة الشكل مزخرفة، ولكنها بلا روح وبلا وظيفة لا تقدم ولا تؤخر شيئاً؟ هذا سؤال نهضوي كما ترى، قد لا تلحظ صلة مباشرة له بالحديث عن الميزانية، ولكنه في الحقيقة هو لُبّ وجوهر الموازنات كافة. وأخيراً: الميزانية كبيرة وأضخم، إذن التحدي أكبر والمسؤولية أعظم هيّا شمِّروا عن سواعد الجد أيها المواطنون فهذه مسؤوليتكم وزراء كنتم أو مَن هم دون ذلك في التسلسل الوظيفي.
* أكاديمي وكاتب سعودي
e:mail: dr-binsabaan@hotmail.com |
|
|
| |
|