| |
شيء من منحة دراسية محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
|
|
يقول التاريخ الأوروبي إن الخليفة الأندلسي هشام الثالث (418-422م)، تلقى من جورج الثاني ملك إنجلترا آنذاك رسالة هذا نصها: (من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام: بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا (اقتباس) نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة وقد وضعنا ابنة شقيقنا (الأميرة دوبانت) على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدب من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص. من خادمكم المطيع: جورج. م. أ). فأجابه الخليفة الأندلسي هشام الثالث:( بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين وبعد: إلى ملك إنجلترا وإيكوسيا واسكندنافيا الأجل، اطلعت على التماسكم، فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابل أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على التفاتتنا ومحبتنا، والسلام. خليفة رسول الله في ديار الأندلس: هشام). هذه اللغة الدبلوماسية الراقية من خليفة المسلمين في التعامل مع الآخر، كانت قبل أكثر من ألف عام ولو عُرضت هذه الرسالة على أحد المتدينين المتزمتين اليوم، ثم وجد قول الخليفة: (مودتنا لشخصكم الملكي) وقوله (وفيها الدليل الكافي على التفاتتنا ومحبتنا)، لحكم أنها (لغة) تتجاوز معايير (الولاء والبراء)، حيث لا يجوز إبداء (المحبة) لغير المسلمين، فلهم منا الكراهية والبغضاء والغلظة والتشدد والتجهم ولخطَّأ الخليفة الأندلسي، وربما اعتبره (عاصياً)! النقطة الثانية التي نقرأها في هاتين الرسالتين، أن ثمة علاقة (ودية) وعلمية بين الدول في ذلك الحين، تعتمد على نشر العلم والمعرفة، وتوثيق عرى التعاون (الإنساني) بعيداً عن الحرب والغزو والكراهية. وليس لدي شك أن ابنة شقيق ملك إنجلترا لم تكن الوحيدة، وإنما الداعي لهذه الرسالة، والتي ترتبت عليها هذه (المنحة) يعود لقرابتها من الملك. وفي الوقت ذاته، فقد كان الخليفة بهذه الممارسة الحضارية، يطبق مبدأ (الدعوة بالحسنى) معتمداً التوجيه الإلهي الكريم: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. وهذه (الرسالة) الدبلوماسية تحكي - أيضاً - جزءاً من تراثنا (الدبلوماسي) المغيَّب عن الخطاب السلفي المعاصر، والذي يحرص المستفيدون من الوضع (المتأزم) مع الآخر على تغييبه، وعندما ترى هذا التزمت والتطرف، وهذه الدعوات التي تدعو إلى الكراهية والبغضاء، تتساءل: أين هذا التراث مما يمارسه بعض أساطين الخطاب الديني المتزمت اليوم؟ لتعرف أنهم (متقوقعون) في تراث يقوم ويتكىء على (التشدد) ويلغي ما عداه من رؤى وممارسات تاريخية أخرى تختلف معه إلغاء تاماً. وثقافة (التزمت) في الخطاب الإسلامي جرى عن قصد وتعمد إبرازها ودفعها إلى السطح، وفي المقابل إلغاء كل ما عداها من الخطابات المتسامحة والمتزنة والوسطية والبعيدة عن الدم والذبح والعنف.. هذا فضلاً عن أن الإسلام في وجهه المتسامح استطاع أن يكون النموذج الراقي (الأول) في التعايش بين الأديان والعقائد والملل، ناهيك عن الشعوب والأقوام والقبائل تحت شعار (لتعارفوا) كما قرأت لأحد الكتاب في لفتة ذكية. والذي يجب أن نعرفه، ونتأكد منه ونعيه تماماً، أننا مهما أنجزنا من منجزات في مكافحة الإرهاب على المستوى العملياتي الأمني، فلن نصل إلى الحل.. الحل يكمن في أن نكون أكثر جرأة وحزماً وشجاعة في (مواجهة) ثقافة (التطرف) التي (تفرخ) هذا الفكر، وتسوِّق للتزمت الذي هو أسُّ (التكفير)، حتى وإن كانت هذه المواجهة (مؤلمة) أو (مُحرجة). فمنذ (جهيمان) ونحن نتسامح، وندمح، ونقدم التنازلات تلو التنازلات لهذه الثقافة، وأربابها.. وفي النتيجة انتقلنا من (جهيمان) الرجل البسيط، المكتظ سذاجة ومحدودية، وإيماناً بالرؤى والأحلام، إلى (ابن لادن)، القاعدة، والانتحاريين، والجريمة المنظمة، وتوظيف التراث السلفي الموروث، بعد لي أعناق مقاصده، في خدمة هذا الفكر.. ودون (مواجهة) هذه الثقافة بحزم، سنبقى - أيها السادة - نعود إلى نقطة الصفر في كل مرة ولن نبرحها إلا لنعود إليها من جديد، وهكذا دواليك.
|
|
|
| |
|