لم يبلغ أحد من بني البشر من المكانة والرفعة والذكر عند أتباعه ما بلغها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ظاهر في حياة المسلمين، في كل صلاة يؤديها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نجد ذكره صلى الله عليه وسلم علياً في النداء إليها، وفي التشهد الأخير منها، وإذا كان تعداد المسلمين اليوم يفوق المليار وأربعمائة مليون يؤدون في كل يوم خمس صلوات، فلك أن تتخيل ما تنطق به الألسن من ذكره صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن ذكره صلى الله عليه وسلم في الشهادتين، والأذكار، والأوراد اليومية، والأدعية المختلفة وغير ذلك من المناسبات.
ولعل هذا جزء من معنى قوله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}(4)سورة الشرح، يقول مجاهد في معنى الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، ليس خطيب ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه.... إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله.... فذو العرش محمود وهذا محمد
نعم لقد رفع الله ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، وعلى مر قرون متطاولة تلت وفاته، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكما رفع عز وجل لنبيه ذكره فقد تولى سبحانه أيضاً الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} سورة المائدة (67)، وبين أنه سيكفيه شر أهل الكتاب وغيرهم: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ..}(137) سورة البقرة، وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) سورة الزمر(36) ، وأخبر تعالى أنه سيكفيه المستهزئين: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} سورة الحجر(95) سواء كانوا من قريش أو من غيرهم.
يقول ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: (وقد فعل تعالى، فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة).
إن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم أنه إن لم يجاز في الدنيا بيد المسلمين، فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عهد النبوة كثيرة، وقد قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} سورة الحجر (95).
والقصة في سبب نزول الآية وإهلاك الله لهؤلاء المستهزئين واحداً واحداً معروفة ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس، أهلكهم الله جميعاً.
وهذا والله أعلم تحقيق أيضاً لقوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} سورة الكوثر(3)، فكل من شنأه صلى الله عليه وسلم وأبغضه وعاداه، فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط، أو في كعب بن الأشرف، وجميعهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر.
لقد شهد بفضل نبينا صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو، وأنَّى لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عيه وسلم وهي كالقمر في ضيائها، وكالشمس في إشراقها، حتى إن كثيراً من عقلاء الشرق والغرب من غير المسلمين قد سطرت أقلامهم شيئاً من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته، فمن هؤلاء (المهاتما غاندي) حيث يقول: (أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفاً لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة).
ويقول (مايكل هارت) في كتابه (مائة رجل في التاريخ): (إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي).
إن ما يتعرض له مقام النبي صلى الله عيه وسلم من أعداء الإسلام حالياً لا يزيده صلى الله عليه وسلم إلا رفعة وسمواً في قلوب أتباعه ومحبيه في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن المرء ليعجب من دول تعتذر لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع تغير هذه المواقف حين يتعلق الأمر بقضايا أخرى كشأنهم مع من عادى السامية أو شكك في المحرقة (الهلوكوست) اليهودية أو تنقصها، وهذا يبين أن مسألة الديمقراطية وقوانين الأمم المتحدة التي تزعم احترامها وحمايتها للحريات وبالأخص الدينية منها، أمور ذات معايير مزدوجة عند القوم المعتبر فيها ما وافق معتقداتهم وأهواءهم.
ولعل من أسباب هذه الهجمة وغيرها هو تقصير المسلمين اليوم في تبليغ دينهم ونشره والتعريف به وبنبيهم صلى الله عليه وسلم ورسالته السمحة وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتفرغهم فقط للدفاع عن وصفهم بالإرهاب والتطرف وغيرها من الدعاوى، حيث أصبحت الجهود متوقفة على ردود الأفعال والإجابة عن كل دعوى تمس الإسلام وتفنيدها وشجبها واستنكارها وهذا وإن كان حقاً، إلا أنه لا بد أن يكون هناك برامج واضحة منظمة وفاعلة في إيصال صوت الإسلام وحقيقته وسماحة رسالته إلى مصادر هذه الدعاوى ودولها شعوباً ومسؤولين وقادة.
وتظل المؤسسات الإعلامية بكافة صورها وأشكالها وخصوصاً ما يصل منها إلى أبصار وأسماع غير المسلمين ذات مسؤولية مباشرة، أن تسطر على صفحاتها شيئاً من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة وجوانبها المضيئة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث لإنقاذ البشرية رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين.
وليعلم بعد ذلك كل مسلم أن الله منتقم لنبيه، وأن المجرم إذا لم تمض فيه سنة الله في أمثاله ولم يهده تعالى للحق، فإن الآخرة أشد وأبقى، وليس ضائراً مقام النبي صلى الله عليه وسلم شيء من هذه الدعاوى.