| |
رسالة إلى رجل (مخموم القلب)! الجوهرة آل جهجاه (*)
|
|
أعرف كل الكلمات التي قالتها لك عشية قصَفَها ظلمُهم الأعور، وشابت أعصابُ مخِّها من صدماتهم الجديدة، التي تبدو مثالاً سليماً وعملياً لسلوك أشخاص اعتادوا على العُنف، الذي يرونه حرصاً، ومحبة، وتقديراً، واعتادوا أن تكون كلمتهم هي النافذة، وهي الصائبة، وهي التي يجب أن يحترمها الطرفُ الآخر، ويقر بملاءمتها له، ثم يصمت! أعرف كيف بدوت رائعاً حينها، وأروع بعدما عرفت أنك تحمل همَّها، وأنك تسعى - خلف الأضواء - للدفاع عن حقها! لقد زرعت في قلبها أنّ لها حقاً صادروه، وأنّ لها حاجة لا تنكر لأن يمنحوها قسطاً من التقاط الأنفاس في رحلة فلاحتها لتربة المكان الذي بدأ يصفر وتتهشم ذرات تُرابه من جفاف أصابوه به طوال سنوات. لقد شطرت فقاعة الكمد القاسية التي تشرنقت عليها، وألجمتْ أنفاسها، وكسرت أضلع آمالها التي قاستْها على طول لحافها وعرضه. كانت المصيبة فرحة، وكان الضيق سعةً، وكان الإحراجُ بطاقة أمانٍ غليظة، ما دام هناك من يصفو قلبُهُ لتحسُّس آلامها قبل أن تشكوها، وترفأ إبرتُهُ مغارات جروحها قبل أن تفكر في لملمتها، ويسهر مصبحاً وممسياً حارساً لها من غيلة أحزانها، ومن غيلة عنفهم معها؛ لأنها مجرد قارورة جديدة في أرضهم، وفيها بضع حباتٍ من اللؤلؤ ووردتان من الياقوت والمرجان، والعذر جاهز للبراءة من تهشيمها؛ فهي: إمّا هشةٌ تنكسر بأدنى رمية، وإمّا شفافة لا تستر ما تُصابُ به من كمدٍ وضيم! أتعرف فضيلة الإحسان إلى من يعفِّون عن طلبه؟ أتعرف فضيلة الرحمة في قلب إنسان طاهر عالم؟ أتعرفُ فضيلة التواضع في الحَدب على رؤوس اليتامى المهاجرين إلى شاطئ البحر الذي يرسمونه على كُراساتهم، وهم يحلمون بالأمان؟ وأنت تُجسِّد لهم هذا الأمان؟ أتعرفُ فضيلة أن تعترف بحق إنسان؟ ون تُعلِنَ دفاعَكَ عنه؟ إخالك تعرفُ هذا كثيراً، وتعرفُ أن الفضيلة أنت، وأنت الفضيلة، وتعرف أن الدنيا تتزلزل في رؤوس الذين توليتهم بعدما خطف اهتمامَكَ غيرهم. وهؤلاء الخاطفون هُمُ الذين ظلموا ساعة رأي بدا لهم، وهم الذين قسوا ساعة شعور استبدَّ بهم، وهم الذين جعلوك تقسو على من ترعاهم؛ لأنك - وحدك - تملكهم وترعاهم. والدنيا قوانين، تتصارع فيها القوة مع الحنان، والحق مع الظلم، والذي يحتمل قليلاً مع الذي نستطيع أن نجعله يتحمل كل العناء؛ لأنه قويُّ في الضعف بصبره، وذاك القويّ ضعيفُ بقوة بطشه! قوانين متشابهة مُلتَبِسة، جعلتْك تقسو على الذين دخلوا في حمى جناحِك، وأنت تمتدح قوتهم الصابرة، وعقولهم التي يجب أن تفكر في العواقب البعيدة لنيل الحق في لحظتهم الراهنة. ولما شكوا لك أنهم لا يستطيعون صبراً، ولا يستطيعون إطالة الانطراح في سهول الذُّل الصغيرة.. وسيبحرون في رحلة بحث جديدة عن جناح جديد يؤويهم.. تحدَّيْتَهم بك، وجعلت رضاك ثمناً لهجرتهم عنك، وأنتَ لا تستطيع رفع العذاب عن أنفسهم، التي باتت أحزانها تتوزَّعُ سموماً تنخر أجسادهم! قلبك معلق بالناس، وبرسم الخير لهم، وجمعهم على كلمة وسطى، تُهدَّئُ الشعث، وتُلملمُ تمزّقات عباءته بفيض مهيب من رحمتك وحنانك.. ولكنّ أغوار الجروح تختلف بينهم، وأنت لا تدري أيها سيلتهبُ في لحظةٍ تُودي بصاحبها، وأنت لم توادعْهُ في رمقه الأخير.. وأنت مبحر بقلبك المخموم! قال - صلى الله عليه وسلم -:(خيرُ الناس المخموم القلب. قيل: يارسول الله، وما المخمومُ القلب؟ قال: الذي لا غِشَ فيه ولا حسد).
(*) محاضرة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
| |
|