بين الفكر والذكرى، جلست اجتر أحلامي والذكريات، أطرقت هنيهة مرت فيها سنين حياتي التي عشتها أمام ناظري في ومضة واحدة، تذكرت أحلامي ما تحقق منها وما زال لم يتحقق، وذكرت الأحياء ومن رحل عن دنيانا من الأصدقاء والأعلام، وكيف أصبحوا ذكرى في عالم النسيان، نذكرهم لأننا أحببناهم، وأحببناهم لأنهم أهل لذلك الحب، أحسنوا في حياتهم فأحسن الله إليهم وبقيت ذكراهم عطرة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وفي بؤرة الذاكرة بقيت ذكرى رجل لامع له من المناقب الحميدة والسيرة العطرة ما له، دعوت له بالرحمة والمغفرة والمنزلة العالية من الفردوس إن شاء الله، هو الراحل الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ - رحمه الله - ذلك الرجل الذي لا يكاد يذكر اسمه في أي محفل أو مجلس من المجالس إلا ودعا له الحاضرون بالرحمة، خلص عمله فطاب ذكره.
كان الأب والأخ والمربي، وضع حكامنا الأماجد - رعاهم الله - ثقتهم فيه فولي الوزارة وكان أهلاً لها، لم يقبع خلف مكتبه يطالع المعاملات، بل فتح قلبه وعقله وبيته ومنح وقته لكل من له مطلب وكل عابر سبيل، هذا هو الرجل وهذه سجية من سجايا أبي هشام رحمه الله.
واتصلت على رجل كان قريباً من أبي هشام رحمه الله، رجل أفنى عمره في خدمة والده الشيخ عبدالله رحم الله الجميع، هو العم يحيى بن سعيد الشهراني، ودار بيني وبينه حديث الذكريات قال: عرفت الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ منذ نعومة أظفاره، فقد تشرفت بمرافقة والده الشيخ عبدالله سنوات عديدة، كان رحمه الله نجيباً متواضعاً أديباً ورحيماً، فمنذ صغره كان يدعو زملاءه إلى فطوره في بيتهم العامر المسمى (الداؤدية) وهي جزء من الحرم الشريف، فكانوا يأتون معه في فترة الفسحة إلى البيت ويتناولون الطعام، فإذا مررت بالصدفة من حولهم وشاهدك دعاك وأصر على أن تشاركه طعامه، ولن يسمح لك بالذهاب حتى تتناول الطعام.
كبر وصار وزيراً وانتقلنا إلى الرياض وكان بيته في حي البديعة آنذاك، فوجهني رحمه الله بألا أرد أحداً عن بيته، الذي كان أشبه بالرباط، فالباب مفتوح على مدار الساعة، والبيت يكتظ بالآكل والشارب والنائم، كان دائم الابتسامة في وجه الجميع، وأذكر له من المواقف التي تدل على تواضعه وإنسانيته أنه ركب سيارته ذات مرة وعندما خرج به السائق من بوابة المنزل فإذا بامرأة واقفة بجانب الباب، فتح النافذة وسألها عن حاجتها، قالت له أريد الشيخ حسن لأن ابنتي لم تقبل في الجامعة، فنزل رحمه الله بكل تواضع وأخذ منها ملفها ووضعه على مقدمة السيارة وعمد بقبولها في الجامعة.
وكنت أتسامر - والكلام للعم يحيى - أنا وبعض جماعتي أمام التلفاز في بدايات البث، وكنا نجتمع في صالة مقابلة لمكتبه الخاص، وطريق المكتب مروراً بهذه الصالة، وكان يريد أن ينجز بعض ما في مكتبه من معاملات، فلما شاهد الناس مجتمعين حول التلفاز، اقترب مني في هدوء فانتبهت له فطلب مني أن أفتح له باب البلكونة من الخلف حتى لا يقطع على المشاهدين متعتهم، فذهبت وفتحت له باب البلكونة فمر منه إلى المكتب وأنجز معاملاته وخرج منه ثانية ولم يدر به أحد من الحاضرين.
تعددت مهاراته حتى كان يكتب الوصفات الدوائية للمرضى من أصدقائه، فقال عنه والده يرحم الله الجميع.. الشيخ حسن شيخ وطيب، كان أولاده يجتمعون في العصر مع أبنائي وزملائهم ويلعبون الكرة في باحة البيت مما أدى إلى تكرار كسر زجاج مكتبه ومجلسه، لم يمنعهم من اللعب بل قال لي: (تكفى يا أبو صالح ضع سياجاً على الزجاج ودعهم يتمتعون بوقتهم).
هذا هو الرجل، كثر علمه فزاد تواضعه، وحسن عمله فعطرت سيرته، أسأل الله عزّ وجلّ أن يجزيه خير ما يجزي به الله عبداً من عباده الأوفياء الصالحين، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته.. آمين.
وصدق الشاعر إذ يقول: