| |
الشيخ الشريم في خطبته عن (الثبات على الطاعة) يؤكد: المطلوب من المسلمين التمسك بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتجعل التدين من الثوابت
|
|
* إعداد - محمد بن إبراهيم السبر: أشار الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة في خطبة له عن (الثبات على الطاعة بعد رمضان) إلى سرعة انقضاء الأوقات وما كان عليه المسلمون من إقبال على أنواع العبادات في رمضان وما يعقب رمضان من فتور وكسل عن الطاعة بل والعياذ بالله نكوص على الأعقاب والرجوع بعد الطاعة إلى المعصية والمنكر. كما حث فضيلته المسلمين على المداومة على الطاعات والمحافظة على الأعمال، مبيناً أن الفرح بالعيد مطلب شرعي لكن بضوابطه الشرعية وحدوده المرعية وبين أن من علائم قبول الحسنة الحسنة بعدها ومن ذلك صيام الست من شوال.. وقد ابتدأ فضيلته الخطبة بالتذكير بالعبرة والاعتبار بمرور الأيام وسرعة تصرم الأوقات فقال فضيلته: (إن في كر الأيام والليالي لعبرةً، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة، والناس برمتهم منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صح بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. وأكد أن هذا كله يعد فرصة عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى، لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} «62» سورة الفرقان. وقال لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويورون الله من أنفسهم متقلبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوة للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر، أو بلابل دوح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير. الكسل والفتور وقارن فضيلته بين أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان وأن الإنسان ليأخذ العجب من لبه كل مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرو في ذلك عباد الله، فالله جل وعلا أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} «21» سورة البقرة. العبرة بالعبادات وأشار الشريم إلى أنه لا بد من النظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوع والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه كان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يسائل الناس أنفسهم: كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حكم ومواعظ وعبر؟ ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟ ألم يقرؤوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! وقال متعجبا فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟! {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} «82» سورة النساء. أفقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حجر؟! أم خلقت من صخر صلب؟! ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً، وللأنس والقربة خراباً بلقعاً، وحينئذٍ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين المروة والصفا، فلا حول ولا قوة إلا باله، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} «24-25» سورة محمد. وحذر فضيلته من مقاربة الفتور والكسل بقوله فإن ذلك مؤداه البعد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وُكل إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه فقد وكل إلى ضيعة؛ وقال فالحذر من أن تغتر بالعزم على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، وكم من صنديد شجاع في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب مما يأنف النظر إليه، واذكروا حمزة مع وحشي رضي الله عنهما. من يرجع إلى المعاصي وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لهو أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غش نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، إلا أنها لا تبرح مكانها بل لربما وجد معها خفي العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة وحلاوة التعبد، إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات من عباد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، وحينئذ أخلقوا بذي الصبر أن يحظى بحاجته، وبمدمن القرع للأبواب أن يلج، ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يغلب الطبع، وإنما العجب في أن يغلب الطبع، وأمثال هؤلاء هم - ولا شك - ممن يسيرون على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في المداومة على الطاعة. واستدرك نعم لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور، بيد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حل رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما صح عنه: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور) والله جل وعلا يقول: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} «92» سورة النحل. ويؤكد ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)، إذ لم يقصر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل وعلا بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} «99» سورة الحجر، فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت. المداومة على الطاعة وبين الشيخ سعود الشريم أن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوب منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندم ثقافة وأسرة وإعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه - بإذن الله - من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشرة مهما قلت ما دامت هي على الدوام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل) (رواه البخاري ومسلم). العبادات الثوابت وأكد فضيلته بأن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة والزكاة والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولمن أوصاك به ولإخوانك في الملة والدين من المعوذين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، التي أمرنا الله بها في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} «31» سورة النور، وكان يتأولها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة). داعياً فضيلته إلى الاتباع والطاعة ولا سيما وقد تذوق المسلم طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، محذراً من أن يعكرن هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد. وبين الشيخ الشريم أن البقاء على الطاعة في كل حين أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرء - بإذن الله - إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلباً في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن) (رواه أحمد)، ولأجل هذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) (رواه الإمام أحمد). الفرح وضوابطه وأردف فضيلته أن للعيد فرحته وأنسه وبهجته وهو مطلب لكل إنسان واستدرك إلا أن من حق النفس أن تفرح بعيدها في الاستئناس البريء، البعيد عن الصخب والعطب، في جميع الأحوال والأماكن (بيتاً ومجتمعاً وإعلاماً)، ومتى تجاوز الناس حدود الله في أعيادهم من لهو محرم، وإيذاء للآخرين بالضجيج والأهازيج فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه، ولقد رأى علي رضي الله تعالى عنه قوماً يعبثون في يوم عيد بما لا يرضي الله فقال: (إنْ كان هؤلاء تُقبِّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين)، ورحم الله ابن القيم حين قال عن الفرح: (إن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} «5» سورة الجمعة. وخلص فضيلته إلى أن على المسلم أن لا يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف، لأن الله لا يحب الفرحين من أمثال هؤلاء، إذ بمثل هذا الفرح يتولد الأشر والبطر، ويدل لذلك قوله تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} «4» سورة الناس. فقد قال بعض المفسرين: إن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس. وفي هذا الصدد أوصى فضيلته المسلمين بتقوى الله والانضباط حال الفرح والسرور والابتهاج، فالمؤمن الصادق لا يفرح إلا فرح الأقوياء الأتقياء، وهو في الوقت نفسه لا يبغي ولا يزيغ، ولا ينحرف عن الصواب، ولا يفعل فعل أصحاب النار الذين قال الله فيهم: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} «75» سورة غافر، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كل يوم لا يعصي فيه العبد رفه فهو عيد). صيام الست وأشار الشيخ الشريم إلى أن الشارع الحكيم قد سن صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله) (رواه مسلم). ووجه كون صيام الست بعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله جل وعلا جعل الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} «160» سورة الأنعام. فصيام رمضان يعد مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فيتحصل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة، مبيناً فضيلته أن الأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سنة وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سنة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له، وإن لم يصمها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً). كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله، وبذلك يكون المرء كأنما صام عاماً بأكمله. و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} «21» سورة الحديد.
(*) إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
|
|
|
| |
|